في ذكرى وفاته..
عبد العظيم الحسني.. من مهاجر متستّر إلى شاه متألّق
|
*جعفر ضياء الدين
*الري .. نبذة*
السيد عبد العظيم الحسني أحد أحفاد الإمام الحسن المجتبى، الإسم الثاني الذي طُبع في ذاكرة الري، وهي المدينة التاريخية التي استولى عليها المسلمون سنة 23هـ حيث كان لهم صولات وانتصارات لدى دخولهم ايران، وكان سعد بن أبي وقاص أحد قادة الاجنحة في الجيش الاسلامي وكان له دور بارز في أحداث فتح الري، ونظراً الى خصوبة أرضها وجمال طبيعتها، ظلت مطمحاً لأنظار الولاة من بعده، ولم يكن ذلك القائد الاسلامي في حينه، يعلم بما يخبئ له القدر من ان ابنه عمر والذي ورث سوء العاقبة منه، بان يقدم على قيادة جيش ليس باسلامي وانما أموي لقتل الإمام الحسين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد سجّل التاريخ أبيات نُقلت عنه:
أ أتــــــرك ملك الري والري منيتي أم أرجــــــع مـــذموماً بقتل حسين
حسين بن عمّي والحوادث جمّة ولي ّ في ملك الريّ قرة عين!
فقتل الإمام في صحراء كربلاء يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، وعاد الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد الى الكوفة، ثم قتل بن سعد شرّ قتلة على يد المختار في ثورته المعروفة، بعد أن أنكر عليه ابن زياد وعده بولاية الري، وبقيت الري خجلى من هذه الوصمة التي فُرضت عليها قسراً.
*عبد العظيم .. المهاجر*
ولد عام 173 هـ.ق في المدينة المنورة و عاصر فترة امامة اربعة من الائمة المعصومين يعني الامام موسي الكاظم (ع) و الامام الرضا (ع) و الأمام محمّد التقي (ع) و الأمام علي النقي (ع) و تشرف بلقاء الامام الرضا(ع) و الامام محمدالتقي(ع) و الامام الهادي (ع) و روي عنهم الكثير من الاحاديث و نظراً لانتهاء نسب هذا السيد الى الامام الحسن المجتبي(ع) لذا فقد اشتهر بالحسني .
وبسبب الاضطهاد والتنكيل الذي كان يمارسه ويتعرض له جميع الشيعة لاسيما أبناء الأئمة الأطهار على يد السلطات العباسية، هاجر السيد عبد العظيم باتجاه ايران، حاله في ذلك حال سائر أبناء الأئمة الذين كانوا يقطعون الفيافي والصحاري للابتعاد ما أمكنهم عن عيون وجلاوزة العباسيين.
نزل السيد عبد العظيم الحسني مدينة الري عام 200هـ، وهو يحمل في كوامنه مسؤولية نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)، والدعوة للحق والحقيقة وكشف الزيف والانحراف، لكنه قضى الأيام الأولى في الري متخفياً، بعد أن نزل في دار أحد الشيعة الثقاة في سكّة الموالي، وقلما كان يخرج من الدار – كما تشير المصادر التاريخية، فكان يقضي ليله ونهاره بالعبادة والتهجّد، وفي بعض الأحيان كان يخرج متستراً لزيارة قبر يقول: انه من ولد موسى بن جعفر (عليه السلام).
ولم تمضي فترة طويلة حتى بلغ خبره الشيعة في تلك المنطقة، فبادروا لزيارته والتزود من علومه والروايات التي ينقلها عن أهل البيت (عليهم السلام)، وأيضاً من اخلاقه وسجاياه الرفيعة.
رأى رجل من الشيعة في المنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال له: إن رجلاً من ولدي يحلّ في سكة الموالي ويدفن عند شجرة التفاح في بستان عبد الجبار بن عبد الوهاب، وأشار إلى المكان فذهب الرجل ليشتري الشجرة ومكانها من صاحبها فقال: لأي شيء يطلب الشجرة ومكانها فأخبره بالرؤيا فذكر صاحب الشجرة أنه رأى مثل هذه الرؤيا، وأنه جعل البستان وقفاً للشيعة يدفنون فيه، فمرض (رضوان الله عليه) مرضاً شديداً أدّى به إلى وفاته في 15 شوّال 252 هـ، أيّام عهد الإمام الهادي (عليه السلام)، فلما جرد عن ثيابه على المغتسل وجدت ورقة في ثيابه مكتوب فيها ما نصه: أبو القاسم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام). ودفن في مدينة ري، جنوب العاصمة طهران، ومزاره اليوم ملاذ للمؤمنين والموالين لأهل البيت (عليهم السلام).
*العالم *
يُعد السيد عبدالعظيم الحسني (رضوان الله عليه) من علماء الشيعه و من رواة احاديث الائمة المعصومين (عليهم السلام) ومن الوجوه البارزة و المحببة و الموثقة عند اهل البيت و اتباعهم و كان عارفاً بأمور الدين و معارف و احكام القرآن و ذو معرفة و ادراك كاملين .
ويدل مديح الائمة المعصومين (عليهم السلام) له على شخصيته العلمية و مدى ثقتهم به و اعتمادهم عليه، وكان الامام الهادي (عليه السلام) في بعض الاحيان يحيل اصحاب الأسئلة او ذوي الحاجات الى السيد الحسني للاجابة عليها و كان يعده من اصحابه الثقات.
ونشاهد الكثير من المديح و الثناء عليه في مصنفات علماء الشيعة و ينعتونه بالعابد و الزاهد و التقي و الثقة صاحب عقيدة صالحة و سريرة طاهرة و محدث جليل القدر، و قد ذكر في العديد من الروايات أن ثواب زيارته يعادل ثواب زيارة الامام الحسين (عليه السلام).
وفي مدينة الري وبعد أن عرفه عدد محدود من الشيعة أخذوا يزورونه بالخفاء و كانوا يجهدون في اخفاء خبره لكي لا تتعرض حياته للخطر. لكن بعد فترة تعرف عليه الكثير من الاشخاص و اصبح بيته مقصداً للشيعة يذهبون اليه يتزودون من منهل علومه و رواياته و يشمون منه عبق عطر بيت النبوة (ص) و يرون فيه خلفاً صالحاً من ائمتهم و يحومون حوله كما تحوم الفراشة حوله الشمعة، فقد كانوا يرجعون اليه في حل مسائلهم الشرعية و الأسئلة الدينية مما يدل علي منزلته و جلالة مكانته و انه كان ممثلاً للامام الهادي (ع) في تلك المنطقة و لذلك اعتبر الناس كلامه كلام الامام فاتخذوه محوراً يجتمع حوله الشيعة و اتباع اهل البيت (ع) في القضايا الدينية و الدنيوية.
*الرحيل*
قضى السيد عبدالعظيم الحسني (رضوان الله عليه) الايام الاخيرة من عمره المبارك مريضاً سقيماً و اصبح طريح فراش المرض و اوشك اتباع اهل البيت على الحرمان من وجوده المبارك فقد زادت المصائب المتتالية التي واجهها الناس و الشدائد التي عانى منها الشيعة في ظل الحكم العباسي من آلامه و احزانه.
وفي تلك الايام ارتسمت الحوادث المستقبلية لدي الشيعة من خلال رؤيا صادقة رآها احدهم من الصادقين، حيث رأى رسول الله (ص) في عالم الرؤيا اذ قال له الرسول الأكرم: سيموت غداً أحد أبنائي في محلة سكة الموالي و سيحمله الشيعة علي الاكتاف الى بستان عبدالجبار و سيوارونه التراب عند شجرة التفاح. فاتجه ذلك الرجل في السحر الى البستان المذكور ليشتريه من صاحبه حتى يحظى بشرف دفن احد احفاد رسول الله (ص) في ارضه ولكن عبدالجبار صاحب البستان الذي رأى بدوره مثل تلك الرؤيا و ادرك السر الغيبي فيها وفي رؤيا ذلك الشيعي، اوقف مكان تلك الشجرة و البستان بأكمله، ليدفن فيه كبار الشيعة و اعيانهم و ليحظي هو بهذا الشرف و عندما اصبح الصباح فارقت روح عبد العظيم الحسني (رضوان الله عليه) الحياة وذاع خبر وفاته بين الناس فلبسوا السواد حداداً عليه و تجمعوا على داره يبكون و ينتحبون و غسلوه و كفنوه.
وينقل بعض المؤرخين انهم عثروا عند غسله على رقعة فيها ذكر نسبه، فإذا فيها: أنا أبو القاسم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (عليه السلام). (بحار الأنوار ج 95 ص 265 ب 2 ح 3 رجال النجاشي ص 173). بعدها صلوا عليه و دفنوه عند شجرة التفاح التي اشار اليها رسول الله (ص) في الرؤيا و اودعوه في تلك التربة ليستظيء محبو اهل البيت من نوره و ليحظوا بمزاره.
من تلامذته ومن روى عنه: أحمد بن مهران، وأحمد بن محمّد بن خالد، وأحمد ابن أبي عبد الله، وغيرهم.
*العلاقة مع أئمة الهدى*
كان السيد عبد العظيم الحسني من كبار العلماء والمحدّثين الشيعة، ومن أصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد والإمام الهادي (عليهم السلام).
وروى أبو تراب الروياني قال: سمعت أبا حماد الرازي يقول: دخلت على علي بن محمد (عليه السلام) بسر من رأى فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها، فلما ودعته قال لي: يا حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني، وأقرأه مني السلام.
وكان من شدة ورعه أن عرض دينه على الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) فلمّا نظر إليه الإمام (عليه السلام) قال: (مَرحباً بك يا أبا القاسم، أنت ولينا حقّاًًً).
فقال السيد عبد العظيم: إني أقول أن الله واحد - إلى أن قال - إن الفرائض بعد الولاية الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر، فقال (عليه السلام): (هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة)، رواه الشيخ الصدوق مفصلا في صفات الشيعة والتوحيد ص 46، والمجالس ص 204، والإكمال ص 214.
ومن وصايا الإمام الرضا (عليه السلام) له (رضوان الله تعالى عليه): (يا عبد العظيم أبلغ عني أوليائي السلام وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة فإن ذلك قربة إليَّ ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك واسخط ولياً من أوليائي دعوت الله ليعذبه في الدنيا أشد العذاب وكان في الآخرة من الخاسرين).
*المرقد المبارك *
كان من الأسباب الداعية لأن ينزل السيد عبد العظيم الحسني مدينة الري زيارة قبر حمزة بن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام). وهذا المعنى موجود في زيارة السيد عبد العظيم بما لفظه: (يا زائر قبر خير رجل من ولد موسى ابن جعفر)، وعلى بعض الروايات كان السيد حمزة (ره) قد سافر مع أخيه الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان وكان قائماً بخدمته في الطريق ساعياً في مآربه طالباً الرضا وممتثلاً لأوامره، ولما وصلوا الري خرج عليه قوم من أتباع المأمون فقتلوه، ثم دفن في نفس المكان. وضريحه اليوم مجاور لضريح السيد عبد العظيم ضمن روضة بهية .
أما تاريخ بناء و تجديد المزار فانه يعود الى العهد البويهي في القرن الخامس الهجري، ثم في العهد السلجوقي على ما يقوله القاضي نور الله الشوشتري: أول من جدد هو مسجد الملك أبو الفضل أسعد بن محمد بن موسى الرادستاني القمي وزير السلطان السلجوقي بركيارق بن ملكشاه بن الب أرسلان فقد كان هذا الوزير قد جدد عدة مزارات أهل البيت. (مجالس المؤمنين 2/460).
وتوالت العناية من مختلف الزوار حتى العهد الصفوي فقام الشاه طهماسب في سنة 944هـ بتوسعه البناء والتعمير، ويوجد على القبر صندوق عتيق مؤرخ سنة 725هـ عليه آيات قرآنية ومنها هذا النص: (بسم الله الرحمن الرحيم أمر بترتيب هذه التربة الشريفة والروضة المنيفة، والمشهد المقدس والمرقد المنور السيد الأعظم الأجل المعظم جلال آل طه ويس حبل الله في الأرضين، سراج الملة والدين عبد العظيم بن عبد الله ابن علي بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (عليهم السلام)، بإشارة المولى الصاحب الأعظم ومفتخر الحاج الحرمين دستور العهد خواجة نجم الحق والدين محمد بن المولى الصاحب الأعظم سلطان منصور الفومدي أعز الله أنصاره وطاب مثوى آياته العظام وأجداده الكرام، تحريراً في سنة خمس وعشرين وسبعمائة) والخواجة المذكور كان وزير المغول في الدولة السلجوقية سنة (716 - 736)هـ.
ويوجد باب عتيق كتب عليه ما نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم: وبه نستعين سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين... تمت (كذا) هذا الباب لمشهد الإمام المقدس سيد عبد العظيم (عليه السلام) سنة ثمان وأربعين وثمان مائة، والعام سنة 848هـ يعتبر في حكومة السلطان شاهرخ الذي حكم (807 - 850)هـ.
أما الضريح الفضي الذي يقوم فوق القبر فقدمه الشاه القاجاري فتح علي شاه كهدية للحرم، كما أهدى أيضاً في عام 1219هـ المرايا المنصوبة في أعلى الإيوان وجوانب الأروقة، وأما التذهيب فقد تم سنة 1270هـ بأمر الملك ناصر الدين شاه.
فيما السيد عبد العظيم في مثواه الطاهر، كان الملوك والأمراء بين غادٍ و رائحِ على مرقده المبارك، فبين التذهيب والتزجيج، وبين البناء والتوسعة والتأثيث، وبلغت التوسعة أوجها اليوم في روضة عبد العظيم الكائنة في جنوب العاصمة طهران، حيث المكتبات والجوامع الملحقة والايوانات والمراكز البحثية والدينية، واليوم تُعد مدينة (الري) الثانية بعد مدينة طهران العاصمة من حيث الكثافة السكانية والجانب الاداري والاقتصادي.
وقد عرف الناس هذا المقام الشامخ باسم (شاه عبد العظيم) على مدى سنوات طويلة، ومنشأ هذه التسمية، حسب الظاهر هي لكثرة زيارة الملك القاجاري ناصر الدين شاه وملوك آخرين لهذا السيد العظيم، الذي عاش مهاجراً مطارداً، لكن مات كريماً سعيداً وسعد به محبوه واتباع أهل البيت (عليهم السلام).
|
|