ابن الصيفي.. الشاعر الغريب
|
*محمد كاظم الكريطي
قومٌ إذا أُخذ المديح قصائداً
أخذوه عن طه وعن ياسين
وإذا عصى أمر الممالك خادمٌ
نفذت أوامرهم على جبرين
وإذا انطوى رمق الاضالع وفّروا
ميسورَ زادهمُ على المسكين
وإذا تفاخرت الرجالُ بسيدٍ
فخروا بأنزع في العلوم بطين
مردي الكماة اذا تشابكت القنا
وغدت صفون الخيل غير صفون
مستودع السر الخفيّ وموضعُ الخلقِ الجلي
وفتنةُ المفتون
بهذه الأبيات يجاهر الشاعر ابن الصيفي في دولة بني العباس بفضل أهل البيت عليهم السلام وافضليتهم على جميع الناس، كما يجاهر العباسيين بالهجاء، ويذكرهم بفضل العلويين عليهم. وشتان مابين مواقف أهل البيت عليهم السلام السمحاء واخلاقهم العظيمة، ومواقف العباسيين الشنيعة وجرائمهم.
فقد روى ابن خلكان في وفيات الاعيان: (قال الشيخ نصر الله بن مجلي رأيت في المنام علي بن ابي طالب فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتمّ على ولدك الحسين في يوم الطف ما تمّ، فقال: اما سمعت أبيات ابن صيفي في هذا، فقلت: لا فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت الى دار ابن صيفي فخرج اليّ فذكرت له الرؤيا فشهق وأجهش بالبكاء وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي او خطى الى أحد وان كنت نظمتها إلاّ في ليلتي هذه ثم انشدني:
ملكنا فكان العفو منا سجية
فلما ملكتم سال بالدم ابطحُ
وحللتم قتل الاسارى وطالما
غدونا عن الاسرى نعف ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوتُ بيننا
وكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
ولد شاعرنا شهاب الدين ابو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي في بغداد عام 492هـ وينتهي نسبه الى اكثم بن صيفي وقد اشتهر بلقب (حَيصَ بَيص) وسبب تلقيبه بهذا اللقب انه رأى الناس ذات يوم في حركة مزعجة وأمرٌ مريج فقال: ما للناس في (حَيصٍ بيص)؟ فبقى عليه ذلك لقباً. ولا شك في ان لمنافسه ومهاجيه، هبة الله بن الفضل اثراً كبيراً في انتشار هذا اللقب حيث قال في احدى هجائياته
لئن اصبحت بينكم مضاعاً
أبيع الفضل مجاناً رخيصا
وعاقني الزمان عن المعالي
فصرتُ الى حبائله قنيصا
فاني سوف أوقعكم ببأسي
وان طال المدى في حَيصَ بيصا
جُددت حماسة المتنبي وانبعث فخره في شعر ابن الصيفي فضلاً عن عذوبة البحتري وجزالة الفرزدق وبديع ابي تمام حتى لقب بـ (ملك الشعراء) وعدّه الدكتور مصطفى جواد (المتنبي الثاني)، وقد اثرت عربيته القُحّة في شعره وحملته على التشبه بالفرزدق. والمتأمل لشعره يرى ذلك الاثر ظاهراً عليه.
كان جده قد فارق بني تميم وترك سكنى بيوت الشعر ونزل كرخ بغداد فولد فيه ابنه محمد و ولد لمحمد ابنه شاعرنا ابن الصيفي، فطلب شاعرنا العلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة ودرس مبادئ اللغة العربية والادب وسمع الحديث النبوي ثم درس الفقه ثم مال الى الادب واقبل على الشعر فأجاده وطبع عليه فكان من أخبر الناس باشعار العرب واختلاف لغاتهم، كما كان قوي (العروبة) لايتكلم إلا باللغة الفصيحة المعربة وينطق بالحروف على حسب لغة الاعراب في عصر طغت فيه اللكنة في الكلام واللهجات الدخيلة، وقد ظهرت عروبيته في جميع احواله فكان يلبس القباء والعمامة ويتزيا بزي العرب العرباء ويتقلد سيفا!! وكان الشعراء البغداديون المعاصرون له كابن الفضل والخطيب ابي العباس العباسي يتنادرون عليه في عروبته ويهجونه منكرين عليه انتسابه الى تميم فكان يفتخر بشعره في جوابه لهم ومن ذلك قوله:
ان شارك الادوان أهل العلى
والمجد في تسمية باللسان
فما على اهل العلى سبةٌ
ان بخور العود بعض الدخان
والرمح لا يرهب انبوبه
إلاّ إذا ركّب فيه السنان
أشجع وجّد تحظ بفخريهما
فكل ماقد قدّر الله كان
وكان شاعرنا يميل الى ملوك بني مزيد الاسديين بالحلة واطرافها، ومدح الامير دبيس بن صدقة المزيدي، وكان هذا الامير خارجا على بني العباس مبادياً لهم بالعدواة وقد حارب الخليفة المسترشد فهجاه في شعره، ولم يكن شاعرنا بأحسن حالاً مع الخليفة المقتفي فمالأ اعداءه وجاهره بالعداوة والمنابذة والهجاء.، وكان معه على رأيه من المشاهير محمد بن المؤيد بن عطاف الآلوسي الشاعر وعبد القاهر السهروردي صاحب القبر المشهور ببغداد فقبض المقتفي على ابي الفوارس وأخذ حافياً حاسراً وحمل الى سجن اللصوص وكذلك فعل بصاحبيه ثم اخرج بشفاعة شافع. وكان لشاعرنا همة لاتقل عن همة المتنبي افصح عنها في الكثير من شعره من ذلك قوله:
خذوا من ذمامي عدة للعواقب
فياقرب مابيني وبين المطالب
لوائي زماني بالمرام، وربما
تقاضيته بالمرهفات القواضب
على حين ماذت الصبا عن صبابة
ذياد المطايا عن عذاب المشارب
ومن شعره ايضاً يمدح امير المؤمنين عليه السلام قوله:
صنو النبي رأيت قافيتي
أوصاف ما أوتيت لا تسعُ
فجعلت مدحي الصمت عن شرفٍ
كل المدائح دونه يقعُ
ماذا أقول وكل مقتسمٍ
بين الافاضل فيك مجتمعُ
كانت وفاته في 6 شعبان 574 ببغداد ودفن في مقابر قريش.
|
|