هشام بن الحكم. . مواجهة الانحراف الفكري بمنطق الحوار
|
*محمد الصفّار
من أرقى الفترات التي مرت بها مدرسة اهل البيت عليهم السلام العلمية، فترتها الذهبية في عهد الإمام الصادق عليه السلام، فكانت جامعة اسلامية كبرى لشتى العلوم، فوجد فيها طلاب العلم ضالتهم المنشودة وغايتهم المطلوبة. ورغم سحب التعتيم التي احاطتها السلطة العباسية بهذه المدرسة النبوية إلاّ انها بقيت شامخة تغذي العالم الاسلامي بشتى العلوم وتنشر باشعتها على كل مكان، فهي مدرسة الوحي ومدرسة علي بن ابي طالب عليه السلام باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخرجت عظماء الفكر الاسلامي وأرباب العلوم المختلفة ومن ابرز هؤلاء هشام بن الحكم الكندي الذي يعد من خواص الامام الصادق وفي طليعة تلامذته الذين وقفوا بصلابة وإيمان ونفاذ بصيرة وتحدّوا كل الصعاب التي واجهتهم، مدافعين عن الحق واهله المتمثل في اهل البيت عليهم السلام.
نشأ هشام في الكوفة التي كانت تحتدم في زمانه شتى الافكار والتيارات والمذاهب فكثرت المجالس وحلقات الدروس المختلفة، وكانت الخصومات والنزاعات الفكرية المذهبية على قدم وساق بين اصحاب المذاهب المختلفة، وكلّ قد أعد عدّته للاستظهار على خصمة بشتى الوسائل والطرق فكان لعلم الكلام مكانة خاصة لأهميته في حسم النزاعات والانتصار للمذهب وبتأييد الرأي وكان هشام من ابرز رجال هذا العصر في هذا العلم وقد امتاز بقوة شخصيته التي جعلته محط انظار علماء عصره.
كان هشام في بداية أمره على رأي (الجهمية) وهي فرقة تتفق مع المعتزلة في الكثير من الآراء وتنسب الى (جهم بن صفوان) الذي اظهر بدعته في ترمذ وقتل في مرو ولكن هشام ترك هذه الفرقة عندما رأى الحق ساطعاً فاتبعه، وكان الإمام الصادق عليه السلام قد عرف هشاما وسمع به فاتجه اليه ليرشده الى الحق ويدله على الهدى فألقى عليه سؤالاً بما كان قد اختص هشام به فما استطاع هشام اليه جوابا فرأى من هيبة الإمام عليه السلام وعلمه وشمائله حسن بيانه وقوة حجته مالم يرَ في غيره فاستبصر وتوقف عن محاججته ثم انقطع اليه واتصل بمدرسته واصبح من ابرز رجالها في الحكمة والدراية والعرفان والفقه والحديث.
كان هشام شديد الاخلاص قوي الإيمان راسخ العقيدة صلباً في دفاعه عن مذهب أهل البيت عليهم السلام وتفنيدا لآراء المخالفين حتى صار مصدر قلق للسلطة العباسية وقد حاول الرشيد الفتك به والقضاء عليه بعد أن رأى تفوقه على اكثر المتكلمين من اصحاب المذاهب الاخرى وقد اشتهر قوله بعد مناظرة وقعت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي بين هشام ومخالفيه حول الإمامة وكانت الغلبة لهشام وكان الرشيد يستمع الى المناظرة من وراء الستر فغضب وقال: ان لسان هشام اوقع في نفوس الناس من ألف سيف، وكان لهشام مكانة خاصة في نفس الإمام الصادق عليه السلام لما عرف من اخلاصه وولائه وقوة شخصيته وتدلنا رواية الكافي ج1 ص71 على مدى المنزلة العظيمة التي كان يتمتع بها هشام عند سيده الصادق عليه السلام فقد روى الكليني عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند ابي عبد الله عليه السلام فورد عليه رجل من اهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة اصحابك فقال ابو عبد الله عليه السلام: كلامك هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله أم من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بعضه ومن عندي بعضه فقال له ابو عبد الله عليه السلام: فأنت اذن شريك رسول الله صلى الله عليه وآله! قال: لا قال : فالتفت ابو عبد الله اليّ فقال يايونس بن يعقوب لو كنت تحسن الكلام كلمته قال يونس: فيا لها من حسرة فقلت: جعلت فداك سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لاصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لاينقاد، وهذا ينساق وهذا لاينساق، وهذا نعقله وهذا ما لانعقله، فقال ابو عبد الله عليه السلام: انما قلت ويل لقوم تركوا قولي وذهبوا الى مايريدون. ويواصل ابو يعقوب روايته لتتبين مكانة هشام ومزلته في المناظرة فيقول: اخرج ابو عبد الله عليه السلام رأسه من الخيمة فاذا هو ببعير يخب فقال: هشام ورب الكعبة فظننا أن هشاماً ـ الذي قصده الإمام عليه السلام ـ من ولد عقيل وكان شديد المحبة لابي عبد الله، فاذا هشام بن الحكم قد ورد وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو اكبر سنا منه قال: فوسّع له ابو عبد الله عليه السلام وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، ثم طلب الإمام عليه السلام من اصحابه ان يكلموا الشامي فكلموه حتى وصل الدور الى هشام فقال الإمام للشامي كلم هذا الغلام يعني هشام بن الحكم : ياغلام سلني في امامة هذا ـ يعني الإمام الصادق عليه السلام ـ فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال له اخبرني ياهذا اربك انظر لخلقه أم هم لانفسهم؟ فقال الشامي: بل ربي انظر لخلقه قال: ففعل بنظرة لهم في دينهم ماذا ؟ فقال: كلفهم واقام لهم حجة ودليلاً على ماكلفهم وازاح في ذلك عللهم فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصب لهم؟ فقال الشامي: هو رسول الله صلى الله عليه وآله قال هشام: بعد رسول الله من؟ قال: الكتاب والسنة قال له هشام : فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسنة فما اختلفنا فيه حتى يرفع عنا الاختلاف ويمكنا في الأتفاق؟ قال: نعم قال له هشام: فلم اختلفنا نحن وانت وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم ان الرأي طريق الدين وانت تقرّ بأن الرأي لايجمع على القول الواحد المختلفين؟ فسكت الشامي كالمفكر فقال له الامام : ما لك لاتتكلم قال: ان قلت أنا ما اختلفنا كابرت، وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لانهما يحتملان الوجوه.. وتنتهي هذه المناظرة بخروج الشامي من مجلس الإمام وهو يذعن للحق ويهتدي الى الرشاد ومناظرات هشام في هذا المجال كثيرة جداً جند فيها نفسه لخدمة الحق واهله ونشر مبادئ الاسلام ورفع الغشاوة عن القلوب التي تاهت في الضلال.
كان هشام يدلي بحجته القوية بأحقية الأئمة المعصومين من أهل البيت بالأمر من غيرهم من الامويين والعباسيين لذلك تعرض لضغوط السلطة ثم لمطاردتها له فخرج متخفياً وصار مشرداً في البلدان، ومن مناظراته في هذا الجانب ـ اي الإمامة ـ ماورد في علل الشرائع (ج 1 ص204) ان هشاما سئل عن الدليل على الامام بعد النبي صلى الله عليه وآله فقال: الدلالة عليه ثمان دلالالت: اربع منها في نعت نسبه واربع منها في نعت نفسه، اما الاربع التي في نعت نسبه فأن يكون معروف القبيلة معروف الجنس معروف النسب معروف البيت وذلك انه اذا لم يكن معروف القبيلة معروف الجنس معروف النسب معروف البيت جاز ان يكون من اطراف الارض وفي كل جنس من الناس فلما لم يجز ان يكون الدليل إلا في اشهر الاجناس ولما لم يجز ان يكون إلا في هذا الجنس لشهرته، لم يجز ان يكون إلا هكذا، ولم نجد جنسا في العالم اشهر من جنس محمد صلى الله عليه وآله وهو جنس العرب الذي منه صاحب الملة والدعوة الذي ينادي باسمه في كل يوم وليلة وخمس مرات على المساجد وفي جميع الاماكن (اشهد ان لا إله الا الله وان محمداً رسول الله) ووصلت دعوته الى كل بر وفاجر من عالم وجاهل، معروف غير منكر في كل يوم وليلة، فلم يجز إلا ان يكون في هذه القبيلة التي فيها صاحب الدعوة لاتصالها بالملة لم يجز ان يكون إلا في هذا البيت الذي هو بيت النبي لقرب نسبة من النبي صلى الله عليه وآله اشارة اليه دون غيره من اهل بيته ثم ان لم يكن اشارة اليه، اشترك اهل هذا البيت وادعيت فيه، فاذا وقعت الدعوة فيه وقع الاختلاف والفساد بينهم ولا يجوز ان يكون إلا من النبي اشارة الى رجل من اهل بيته دون غيره لئلا يختلف فيه أهل هذا البيت انه أفضلهم واعلمهم واصلحهم لذلك الامر وما الاربع التي في نعت نفسه فان يكون اعلم الخلق واسخى الخلق واشجع الخلق واعفّ الخلق واعصمهم من الذنوب صغيرها وكبيرها لم تصبه فترة ولا جاهلية ولا بد من ان يكون في كل مكان قائم بهذه الصفة الى ان تقوم الساعة.
ونظراً لما كان يمتاز به هشام من سرعة البديهة وغزارة العلم ولا أدل على ذلك من ترأسه لمجلس يحيى البرمكي الذي كان يضم علماء الفرق ورؤساء الاديان واهل الآراء فكان هشام يفحمهم بججه الباهرة، وقد حاول بعضهم ان يوقع الشر في قلب الرشيد على هشام فالقى اليه سؤالا في قضية مخاصمة العباس لعلي عليه السلام في ميراث النبي صلى الله عله وآله وكان الرشيد يحضر ذلك المجلس من وراء الستر وهشام لايعلم به فقال السائل : يا أبا محمد ـ وهي كنية هشام ـ اما علمت ان علياً نازع العباس الى ابي بكر ؟ فقال هشام: نعم فقال السائل : فأيهما كان الظالم لصاحبه؟ رد عليه هشام بما عرف عنه من سرعة البديهة وحضور الجواب: لم يكن فيهما ظالم فقال السائل : أفيختصم اثنان في امر وهما محقان؟ فقال هشام : نعم اختصم الملكان الى داود وليس فيهما ظلم وانما ارادا ان ينبهاه، كذلك اخصم هذان الى ابي بكر ليعلماه ظلمه!
ولهشام الكثير من الاجوبة المفحمة من ذلك ما نقله ابن النديم عنه قوله بعد وصفه بقوة الحجة وسرعة البديهة: مارأيت مثل مخالفينا عمدوا الى من ولاّه الله في سمائه فعزلوه ـ يعني عليا عليه السلام ـ والى من عزله الله من سمائه فولوه ـ يعني ابا بكر ـ ثم يذكر مبلغ سورة براءة ومرد ابي بكر وايراد علي بعد نزول جبرئيل قائلاً لرسول الله : (لايؤديها عنك إلا انت او رجل منك) فرد أبا بكر وانفذ عليا. ولم تقتصر مناظرات هشام مع المخالفين حول الامامة والمذهب بل ناظر في كل الملل والاديان ومثلما ناظر الاباضية وأبا حنيفة وابراهيم بن يسار المعتزلي وابا الهذيل العلاف وابا شاكر الديصاني وغيرهم فقد ناظر الجاثليق والاثنينية والبراهمة كما ناظر الملحدين والزنادقة وعلى رأسهم عبد الكريم بن ابي العوجاء ومناظراته اكثر من ان تحصى في ذلك وقد امتلأت كتب التاريخ بها فاصبح رمزا يستدل بها على قوة الحجة وسطوع الادلة.
لقد سخر هشام كل طاقاته وبذل مجهوده وضحى بحياته في سبيل الدفاع عن الاسلام ومذهب اهل البيت عليهم السلام والقضاء على البدعة وكان يستمد تعاليمه من ينابيع صافية ومناهل غدقة الا وهي مدرسة الوحي المتمثلة في الائمة الطاهرين وقد واجه المخاطر والشدائد فلم يهن ولم ينثن عن نشر الحق والهدى فلاحقته السلطة العباسية وطلبه الرشيد اشد الطلب حتى وافاه الاجل في الكوفة وواصى ان يحمل جثمانه في جوف الليل ويدفن بالكناسة وتكتب على قبره رقعة: هذا قبر هشام بن الحكم الذي طلبه الرشيد مات حتف انفه. وقد ترك هشام مؤلفات كثيرة وآثار خالدة في شتى المواضيع في التوحيد والنبوة والامامة وغيرها وقد ذكر ابن النديم في فهرسة سبعة عشر مؤلفات منها اكثرها في الردود على المخالفين.
بقي ان نذكر ان هشام قد تقلد بأوسمة العقيدة والايمان وهذه الاوسمة هي كلمات مضيئة قيلت في حقه من قبل الائمة المعصومين دلت على مكانته السامية ومنزلته الرفيعة فمن اقوال الامام الصادق في حقه؟ (ياهشام مازلت مؤيداً بروح القدس)، وقوله: (هذا ناصرنا بقلبه ولسانه)، وقوله: (هشام رائد حقنا المؤيد لصدقنا والدافع لباطل أعدائنا. من تبعه وتبع امره تبعنا، ومن خالفه فقد عادانا).
كما ورد في حقه قول للامام الرضا عليه السلام عندما سئل عنه: رحمه الله كان عبداً ناصحاً وأوذي من قبل اصحابه حسداً منهم له.
|
|