الدعاء في القرآن الكريم
إلهي... (مَسَّنِيَ الضُّرُّ)
|
*إعداد / صادق الحسيني
لو تأملنا حياة الانبياء نجد أنهم كلما زدات ابتلاءاتهم كثر شكرهم و زادت انفسهم المؤمنة اطمئناناً بالرحمة الإلهية واحساساً بعظمة خالقهم، فتزداد حاجتهم للارتباط به، ومن هنا لا ينقطع شكرهم لله تعالى كما لا ينقطع دعاءهم له عزوجل، ومن هؤلاء الانبياء الصابرين النبي أيوب (عليه السلام) الذي جعله الله للعابدين ذكرى وللمؤمنين مثالاً وعبرة للصبر.
كان لأيوب (عليه السلام) الكثير من الابل و البقر والخيل و الغنم لاشتغاله بالرعي، فقد كان يمتلك ثروة طائلة وقد سعى في توسعة الزراعة، فكان له الكثير من المزارع و البساتين و العبيد و الاولاد. وكل مساعيه كانت على أساس التقوى و العدالة، فكان براً رحيماً بالمساكين. يكفل الأرامل و الأيتام و يكرم الضيف و يبلغ ابن السبيل وكان شاكراً لأنعم الله تعالى، إلا ان الله تعالى ابتلاه ليمتحن صبره و مدى استقامته (عليه السلام)، فجاءه بعض غلمانه ذات يوم ليخبروه بهلاك جميع عبيده وسرقة أبقاره و قبل أن ينتهي من كلامه أتاه غلام آخر ليخربه باحتراق جميع اغنامه ورعاتها وهكذا اخبره ثالث بنهب جميع ابله ومقتل رعائها و موت جميع ابناءه ايضاً...! مع كل هذه الاخبار المفجعة والمفاجأة إلا انه ظل محافظاً على توازنه ورباطة جأشه، راضياً بقضاء الله تعالى.
لم يكن كل شيء في اختبار هذا النبي العظيم، إنما فوجئ بتعرضه لأنواع من الامراض و استمر يعاني المرض اعواماً متوالية، وهو فيها راضٍ برضاء الرب، و بذلك يعلمنا درساً مهماً بأنّ الابتلاء لابد ان يصيب الانسان في الدنيا وينبغي عدم جعل البلاء في الدنيا دليلاً على غضب الله بل قد يكون دليلاً على قرب صاحبه من الله فكلما ازداد ايمان المرء ازدادت ابتلاءاته .
و اذا وعينا حكمة الابتلاء نزداد صبراً عليه وايماناً بكشّاف الكرب والبلوى، فالابتلاء اذن يكون سبيلاً لتوطيد العلاقة العرفانية بين العبد وربّه فكلما زاد ابتلاءنا زادت مناجاتنا لله تعالى .
من هنا وبعد اعوامٍ من هذه الحالة و بعد ان تفرق الناس عنه لشدة مرضه، دعا ربه لينجيه مما هو فيه ولم يكن دعاء النبي أيوب عليه السلام إلا لحكمة ومن أجل هداية الناس لا مجال لذكرها في هذا الحيّز، والقرآن الكريم ينقل لنا دعاء هذا النبي العظيم: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (الأنبياء /83).
ولهذه الكلمات دلالات و معاني و هي من اجمل الادعية المذكورة في القرآن الكريم لو تأملناها، فالنبي لم يستخدم التصريح وانما الكناية التي هي أبلغ منه.. ثم انه استعمل (المسّ) ولهذه الكلمة معناها الدقيق لأن لكل كلمة دلالتها الخاصة، ويبدو لي ان استخدام (المسّ) هنا للتقليل من عظمة الضُر الذي كان عليه، فبالرغم من كل ما جرى عليه إلا ان كل ذلك مؤطر باطار الدنيا و ان النبي ايوب عليه السلام، لم يزده ما هو فيه إلا ايماناً و طاعة .
و لأنّ الله عالم بما أصيب به أيوب، فلابدّ أن يكون نداءه استعطافاً ودعاءً وكأنه يقول: يا ربّ ان الضر قد بلغ مني غايته. وهو بدوره درس آخر من آداب الدعاء بأنّ الآله الرحيم الذي ندعوه هو اعلم بحالنا منّا وانما يؤخر استجابة الدعاء احياناً ليزداد ايماننا به و لنعرف حاجتنا الابدية له عزوجل.
في هذا الاطار يُنقل عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أنّه كان يقضي لياليه جائعاً وكان يدعو ربّه طوال الليل أن يرزقه طعاماً ليقوى به على طاعة الله إلا ان الاستجابة كانت تتأخر حتى الصباح لأنّ الله كان يحب سماع مناجاة أبي ذر، كما في الرواية.
وقيمة المناجاة هي بالطبع أعظم من قيمة الامر الذي يستجاب ان كان من الامور المادية، لأن بالدعاء يتصل الانسان بالله العظيم وما قيمة المال او الدار او الوظيفة و... مقابل النعيم والرضوان افي الآخرة، ثم يقول النبي أيوب عليه السلام: "وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"، بمعنى؛ اليك اتوجه بالدعاء لترفع عني الضر. وبالفعل لم يخيب الله ظنّ النبي أيوب و استجاب له حيث قال: "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" (الأنبياء /84).
هذه القصة تُعد عبرة لنا نحن الذين نعبد الله لكي نعلم أيّ رب رحيم نعبده! وكيف أنه يستجيب دعاءنا فلا يكشف السوء عنا فقط وانما يزيدنا من فضله ايضاً.
|
|