قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

من الدولة الإسلامية إلى الإشكالية العلمانية. . المنعطفات والتحولات والمهام الحضارية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *يونس الموسوي
في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوات المطالبة بتغيير الأوضاع المتدهورة القائمة في عالمنا الإسلامي تبدو هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها قبالة تلك الدعوات في مقدمتها: ما المقصود بفكرة التغيير المتداولة في أوساط الجهات والواجهات المتعددة والمختلفة الأغراض والإتجاهات فضلا عن وجود سؤال آخر قد يكون أكثر دقة ودلالة وهو المتعلق بالأدوات والأساليب المعتمدة في تحقيق هذه المهمة والمجالات المعنية بها على الصعيدين الكمي والنوعي ثم ما هي الحدود المتصورة لحركة التغيير؟
وقبل الإجابة على مثل هذه الأسئلة لابد من إجراء بحث سريع حول العناوين الرئيسة التي تنطوي عليها التفاصيل التاريخية والسياسية والاجتماعية ذات العلاقة الوثيقة بعملية التغيير والتي يمكن اجمالها بما يلي:
1- التجربة السياسية المقترنة بمراحل تدهور الواقع الإسلامي.
2- الأدوات والوسائل المعتمدة.
3- المديات والمسميات المعنية بعملية التغيير.
وبعد ان تطرقنا إلى ذكر العناوين الأساسية المعنية بالبحث لابد من القيام بجولة من الاسترسال والاستقصاء حول كل عنوان من هذه العناوين لنصل في خاتمة المطاف إلى الحصيلة التي يمكن الاستعانة بها لتسليط الضوء على الحقائق المعنية بالإجابة على تلك الأسئلة ولنبدأ بالعنوان الأول.
1-التجربة السياسية المقترنة بمراحل تدهور الواقع الإسلامي.
الملاحظ ان عامل التحلل والانحراف الذي بدى شائعا في مراحل متعددة من مراحل الدولة الإسلامية كان صاحب الدور المباشر في انحدار تلك الدولة وتدهور اوضاعها ومن ثم إلى ضياعها وأفول نجمها ولنأخذ مثالا على ذلك فترة الدولة العثمانية وهي الفترة الفاصلة بين الدولة الإسلامية ككيان سياسي مترامي الأطراف وبين الفترة الممتدة من سقوطها وحتى يومنا هذا حيث أصبحت النظم السياسية العلمانية هي المسيطرة على مقاليد الأمور في أكثر البلدان الإسلامية.. لو أخذنا تلك الفترة كمثال لدور الفساد والانحلال في تدهور الواقع وتراجع معالم الوجود والنهوض لوجدنا أن ذلك المثال ينطبق تماما على الظروف السياسية والاجتماعية المؤدية إلى انحسار تلك الفترة وقيام الفترة العلمانية التي أخذت تعكس تأثير الغرب على الواقع خاصة وان ذلك التأثير تمت عملية تمريره عبر قنوات الترويج المتداولة في أوساط العلمانيين وأصحاب الأطروحات القائلة بفصل الدين عن السياسة.. يقول المؤرخون في وصفهم لأيام ضعف الخلافة العثمانية: (واستمرت عوامل الضعف ان من حيث انحطاط اخلاق أفراد الأسرة الحاكمة أو من حيث دسائس الحريم في البلاط والفساد في الدوائر العليا وزوال النهضة العسكرية استمرت هذه العوامل وغيرها في دفع عجلة الدولة نحو مهاوي الخراب. وما كان لدولة كالدولة العثمانية التي كانت تتألف من عناصر بشرية متنافرة منتشرين في رقعة جغرافية مترامية الأطراف ومن مبادئ في الحكم قائمة على أساس الحرب والتوسع دون الالتفات إلى مصالح الشعب وتحسين أحوالهم المعاشية، ان دولة كهذه لا يمكن ان تعمر طويلا وتصمد أمام تقلبات الدهر وتغيير ظروف الحياة، وكان من عوامل الضعف أيضا نظام الحكم ذاته، فإن السلطة كانت تعتمد الأسلوب الوراثي على أساس وراثة الإبن لأبيه ثم تغير هذا الأسلوب ليكون على أساس احقية كبير العائلة بوراثة منصب الخلافة وبحسب هذا العرف جلس على العرش سنة (1517) رجل مخبول عاجز إسمه السلطان مصطفى الأول وبعد ثلاثة أشهر أعلن انه غير صالح للحكم بسبب ضعف عقله).
وهكذا كانت نهاية الدولة العثمانية بمثابة إيذان لبدء عهد العلمانية الذي مازال مستمرا إلى يومنا هذا في تركيا ـ عاصمة الدولة العثمانية ـ ففي نيسان (ابريل) سنة 1909 تم اعتقال السلطان عبد الحميد الثاني من قبل عناصر جمعية تركيا الفتاة وجرى خلعه عن العرش وتنصيب أخاه الضعيف محمد رشاد الخامس مكانه ليتحول الحكم من الناحية الفعلية إلى أيدي الانقلابيين من أعضاء الجمعية وفي ضوء ذلك نجد ان التجربة السياسية المقترنة بمراحل تدهور الواقع الإسلامي تشير إلى ان الانحراف والفساد الأخلاقي والسياسي هما العاملان الأساسيان في أفول آخر تجربة إسلامية أفضت إلى ما أفضت عليه من ممارسات تغريبية في الحكم والدولة لازالت تهيمن على جانب كبير من الواقع الإسلامي.
2- الأدوات والوسائل المعتمدة:
أشرنا إلى ان سقوط الدولة العثمانية كان ناشئا عن أسباب هي في الواقع تمثل القاسم المشترك لجميع الأسباب المؤدية إلى ضعف الدولة الإسلامية وسقوطها على اختلاف مسمياتها التاريخية والسياسية وهذه الأسباب كما أوضحنا كانت تتمثل بالفساد والانحراف وبناء على ذلك فإن سقوط الدولة العثمانية كان يعني فتح الأبواب على مصراعيها لدخول التيارات الغربية تحت ذرائع ومبررات عديدة ومتنوعة فبعد ثلاثة اشهر من السقوط أي في عام 1908 اغتنمت النمسا فرصة أجواء الفوضى والبلبلة السائدة في العالم الإسلامي ذلك الحين لتقوم بضم البوسنة الهرسك وأعلنت بلغاريا استقلالها التام وفي سنة 1911 و1912 وجهت إيطاليا بدافع من شهوتها الاستعمارية قوتها العسكرية ناحية شمال أفريقيا واحتلت طرابلس الغرب وبنغازي في ليبيا وهكذا أخذت التطورات تأخذ وتيرة متسارعة وباتت الإمبراطورية العثمانية مجرد أجزاء إقليمية متناثرة تلتقي جميعها عند إرادة الغرب القاضية بتأسيس أنظمة انفصالية علمانية على انقضاض تلك الإمبراطورية وبدعوى الاقتداء بالتجربة الحضارية الغربية.
هذا الإيجاز السريع لأخطر منعطف في حركة التاريخ الإسلامي كفيل بوضع القارئ أمام المختصر المفيد فقد اعتمدت الأدوات والوسائل العلمانية منذ سقوط الدولة العثمانية وحتى هذه اللحظة بدعوى مواكبة حركة العصر واستنساخ النهضة الغربية غير ان الذي تحقق هو المزيد من التخلف والتراجع على الأصعدة المتعددة وإذا كان العهد العثماني قد اقترن مع المزيد من الفتوحات فإن العهد العلماني اقترن بالمزيد من الهزائم والإنكسارات ولعل في نموذج فلسطين وما يجري لأهلها اليوم على أيدي الصهاينة خير دليل على ذلك.
3- المديات والمسميات المعنية بعملية التغيير:
ان ما تقدم يؤكد على ان عملية التغيير يجب ان تكون على مستوى من الفاعلية والشمولية بمعنى آخر ان تكون هذه العملية قائمة على (حركة حضارية تهدف إلى تقويض البنى الثقافية والاجتماعية والإقتصادية والسياسية، ومجتمعاتنا اليوم بحاجة ماسة إلى الحركة الحضارية التي تشمل كل الأبعاد في نفس الوقت وبنفس الحدة ذلك لأن الواقع الذي تعايشه أمتنا ليس منحرفا بإنحرافات يمكن إصلاحها بل هو واقع شديد الانحراف وواسع الضلال).
وعلى ذلك فإن المطلوب هو القيام بإستعادة التجربة الإسلامية وتطهيرها من شوائب الانحراف والفساد التي لحقت بها ومن ثم القيام بتحديد معالم الثورة وشروطها وعناصرها المطلوبة وفي مقدمتها الشروع بإعداد الشخصية الثورية المتخذة من الإيمان بمبادئ الإسلام وقيمه منطلقاً، وكونه الحل الوحيد لمشاكل الواقع ومحنة الأمة ومن خلال هذا المنطلق تبدأ حركة التغيير مسيرتها القائمة على إحياء تلك القيم والمبادئ والتوجه نحو تطهير الأرض من مظاهر الجاهلية خاصة و(إن الوضع في غالبية العالم الإسلامي بل في العالم قد عاد إلى الوضع الجاهلي الأول وان ما نعيشه اليوم انما هو نوع من الجاهلية السائدة في العالم) ومن هنا يتوجب النهوض بهمة النموذج الإيماني للإنسان المسلم في مراحل الإسلام الأولى عندما كان يجسد أسمى معاني العطاء والإبداع على صعيد التضحية والفداء وعلى صعيد الإيمان بحتمية المسيرة والإنطلاق تحت رايتها وبهذه الكيفية تجد الجماهير المسلمة نفسها في أقصى بقعة من عالمنا الإسلامي إلى أقصى بقعة وهي على موعد مع وعد الله في نصرة عباده المؤمنين وتحقيق ما نهضوا وجاهدوا من أجله، مثلما حدث في إيران حين انتصرت الثورة الإسلامية بقيادة الزعيم الراحل الإمام الخميني، غير أن الاستقامة والنزاهة والسمو على الرغبات والأهواء، مثل هذه المفاهيم والمعاني يجب ان تكون الترجمة العملية للطموح والتطلع الإيماني الصادق سواء في مرحلة العمل والجهاد أو في مرحلة النصر والظفر لأن التخلي عن مثل هذا الالتزام واستبداله بالتراجع أمام سلطان النفس والهوى سينتهي إلى ما انتهى إليه من ضيعوا انفسهم وأمتهم ليكون حالهم مصداقا للآية المباركة (إذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).