من وحي (نهج البلاغة)
إقبال القلوب وإدبارها
|
*باسم عبد الخالق
قديماً قيل إن أكثر من يتصف بالتغيّر والتقلّب هو (القلب)، بل ان المعنى اللغوي لهذه المفردة تدلّنا جليّاً على معناها، وبما ان معظم سلوكيات وحالات ومواقف الانسان في حياته تنبع من هذا الجانب المهم والحيوي في كيانه، فان من الضروري بمكان اتخاذ جملة من الاجراءات الاحترازية للحؤول دون حصول تحولات وتقلّبات ربما تكون في غير صالح الانسان أو تدفعه الى مسارات لا يحمد عقباها.
وخير من يعطينا الصورة الناصعة والجميلة للقلب هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ففي فصل من (نهج البلاغة) وفي باب المختار من حكمه، يقول عليه السلام:
(لقد علّق بنياط (1) هذا الإنسان بضعةً هي أعجب ما فيه وذلك القلب. وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع، وأن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وأن ملكه اليأس قتله الأسف، وان عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وأن أسعدهُ الرضا نسي التحفّظ، وأن نالهُ الخوف شغلهُ الحذر، وأن اتسع له الأمر استلبتهُ الغِرّة (2)، وان أفاد مالاً أطغاهُ الغنى، وأن أصابتهُ مصيبة فضحة الجزع، وأن عضّته الفاقةُ شغله البلاء، وأن جهده الجوع قعد به الضعف، وأن أفرط به الشبع كظّته البطنة (3)، فكل تقصير به مُضرّ، وكل إفراط له مفسدٌ).
القلب يلعب دوراً مصيّرياً وهادياً في الجسم وهو ذو علاقة وطيدة بسائر الأعضاء بحيث أن صحة وسلامة الجسم يتوقف عليه. فالقلب بمعناه (المعنوي) أو ما يسمى بالروح له الدور الأساس على صعيد شخصيّة الإنسان. ولذلك فإنه ليس عجيباً أن يقول الامام: (لقد علّق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه: وذلك القلب).
فكما أن القلب هو مركز للعلم ومصدر للحكمة، كذلك يمكن أن يصبح مصدر للجهل والسفاهة، إذا لم يسع الإنسان في سبيل تطهيره وجعله على خطى الهداية والصلاح. من هنا ينقل لنا الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام نماذحاً وصوراً لهذا العضو الحساس في الجسم:
الصورة الأولى: الأمل
لا يخفى على أحد أهمّية الأمل في استمرار الحياة، فبالأمل يطمح الإنسان للسعادة والحياة المثلى فيكون الأمل نافعاً ومفيداً حينما يكون متزناً وفي غير هذه الحالة فإنه يكون مضراً ويولّد حالات مرضيّة مختلفة، فالأمل بهذا المعنى يؤدي إلى الهلاك، (فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع وأن هاج به الطمع أهلكه الحرص)، فينبغي على الإنسان حينئذٍ ان يراقب نفسه عبر خطوتين تاليتين:
الأولى: ان يكون أمله وتعلقه بالأمور المفيدة والمصيرية.
الثانية: أن يسيطر على آماله وطموحاته ويجعلها ضمن صورها الطبيعية.
الصورة الثانية: اليأس
وهي احدى حالات القلب، والتي يقابلها الأمل. وهناك بعدان لهذه الحالة: البعد السلبي والمضر، والبعد الإيجابي والمفيد، فالبعد الإيجابي هو (اليأس عما في ايدي الناس) كما يعبر الحديث الشريف، فهذا النوع من اليأس، يجلب للإنسان الرفعة والاحترام كما أن النظر إلى ما في أيدي الناس يجلب المذلّة والاستصغار.
أما البعد السلبي لحالة اليأس فهو حالة اليأس من الحياة، و يُعد أمراً مرفوضاً وخطيراً للغاية ينبغى معالجته، وألا تحول الى هزيمة واحياناً الى محاولة للانتحار، ولو ان مجتمعاتنا الاسلامية تخلو بشكل كبير من هذه الظاهرة المرضية الخطيرة. (وأن ملكه اليأس قتله الأسف).
الصورة الثالثة : الغضب
وهي من تلك الحالات التي يصاب بها الإنسان عند مواجهته لإمر أو لحالة لا توافق ولا تلائم طبائعه وميوله فرغم أنه يعد أمراً لازماً للإنسان بحسب تكوينه النفسي، فهو بحاجة أيضاً إلى الترشيد والرعاية وفيما عدا ذلك فإنه يجلب له المشاكل والمصائب التي هو في غنى عنها. فالغضب حالة من حالات الجنون التي يفقد الإنسان فيها عقله حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (الحدّة ضرب من الجنون).
والتاريخ يشهد أن الكثير من الحروب الدموية والويلات التي حلّت بالشعوب حدثت نتيجة لعدم تعديل وترشيد هذه الحالة. (وان عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ).
الصورة الرابعة: الرضا
حالة الرضا تقابلها حالة الغضب، فحالة الرضا عبارة عن حالة يتعرض لها الإنسان عند مواجهته لأمور موافقه لأميالة ورغباته. ولكن لطبيعته العجولة ينسى الانسان التحفظ ويفقد الاتزان عند حالة الرضا والفرح ويحطّ من هيبته وكرامته ويسبب لنفسه احراجاً ومشاكل شتّى. فيما إذا لم يسيطر على نفسه أو إذا فقد الاتزان والتركيز. (وأن أسعدهُ الرضا نسي التحفّظ).
الصورة الخامسة: الخوف
الخوف والحيطة يكون نافعاً عندما يكون في محله المناسب وحينما يكون خاضعاً للاعتدال والمراقبة وفي غير هذه الحالة فإنه يكون عاملاً للإحباط والتراجع فالخوف بمفهومه السلبي يكون مانعاً أمام تقدم الإنسان فهو لايقدم ولايبادر إلى الخير، تحت ذريعة اجتناب الصعاب والتهرب من الواقع. (وان نالهُ الخوف شغلهُ الحذر).
الصورة السادسة: الأمن والرفاهيّة
ليس هناك من لايستلّذ بنعمة الأمن والرفاهيّة، لكن الاسترسال والاستغراق بالملذات الدنيوية يؤدي إلى عمى القلب والغفلة مما يجعله فاقداً للحيطة والحذر وعرضة لبعض المخاطر. (وإن اتسع له الأمر استلبتهُ الغِرّة).
الصورة السابعة : البلاء
ان الدنيا عبارة عن بيت لا يخلو من البلاء والمصائب وكما يعبر الحديث الشريف (دار بالبلاء محفوفة)، فالإنسان منذ أن يولد حتى لحظات موته لاينفك عن المشاكل والهموم. وبشكل عام فالمشاكل التي تعترض حياة الإنسان تكون مفيدة ونافعة له وتوصله إلى شواطئ السعادة والأمان رغم أن الكثيرمن الناس لا يتحمّل الصعاب أو يفقد صبره ويجزع عند مواجهته لها.
في حين أن الجزع في حد ذاته يعد مصيبة ثانية إضافيةً إلى الأولى، والذين لايصمدون أمام الصعاب لايمكن نيل السعادة الحقيقية، (وأن أصابتهُ مصيبة فضحة الجزع، وأن عضّته الفاقةُ شغله البلاء).
الصورة الثامنة: الثروة
أن المكنة والثروة من النعم الإلهيّة العظيمة فإن استغلت للخير جلبت للإنسان السعادة الدنيويّة والاخرويّة أيضاً.
فالمال والمكنة المادية من عوامل السعادة شريطة أن يتعامل معها الإنسان تعاملاً منطقياً وعقلائياً ومتحرراً من سلبياتها الهالكة. (وان أفاد مالاً أطغاهُ الغنى)، وطالما سلبت الثروة والمكنة المادية عقول الناس وجعلتهم طغاتاً على مر العصور.
فرغم أن الفقر والعوز يمكن أن يكون دافعاً نحو الكمال والسمو الروحي، فهو في نفس الوقت يسبب للإنسان بعض المشاكل لذلك نجد أشخاصاً وظفوا كل جهدهم في سبيل التخلص من حالة الفقر، لكن الإمام عليه السلام يشير إلى حالة التعادل فيقول: (فكل تقصيرٍ به مضر، وكل افراطٍ له مفسد)، فحالة الاعتدال مطلوبة في كل الأحوال حتى فيما يخصّ القلب بل وحتى فيما يخصّ العبادة، وفي حديث له عليه السلام يقول: (من لم يفرّط في أمره عاش في الناس حميداً).
|
|