ظاهرة التملّق في ظل غياب القانون
|
*يونس الموسوي
كنت أرى أحد الأفراد المتنفذين يقرب المتملقين ويُبعد المنتقدين، فكنّا نقول له: إن الذي ينتقدك وينتقد عملك لايريد لك ولعملك الشر والسوء، بل بالعكس هو يريد لك الخير لأنه متحمس للعمل ويتألم لوجود بعض نقاط الضعف، فهو يريد إصلاحها، فكان الجواب: أن الأوضاع لاتتحمل الانتقاد والمنتقدين!
وهكذا استمرت الأوضاع منذ ذلك الوقت وحتى اليوم حتى بات الامر قانوناً يتحكم في أمورنا، من المحلة والمنطقة التي نسكنها ومحيط العمل والشارع و... وهذا طبع إنساني عريق حيث أن معظم البشرية لاتطيق المنتقدين وتتقرب نحو المتملقين، وتبدو العلّة واضحة وهي خشية الانسان من مصارحة نفسه ومحاكمتها، وفي معظم الاحيان تأخذه العزّة بالاثم.
لاشك أن التملّق هو مرض البلدان المتخلفة، ذلك أنه يمكن أن يكون نافعاً لأناس لا يحكمهم قانون أو دستور، ذلك أن الرئيس في هذه البلدان هو الكل بالكل، وكذلك رئيس الدائرة، ورئيس مركز الشرطة، وحتى مختار المحلة، فهو الذي يصنع القانون في بلداننا وهو الذي يتلاعب بمقدرات الناس، وأتذكر في زمان الطاغية صدام كان المختار يهب الحياة أو يحرمها من أناس ذلك أنه لو كتب على أحدهم تقريراً يتهمه بالإنتماء إلى المعارضة، فهو بذلك قد حكم عليه بالإعدام.
وعندما يصبح لدى هؤلاء الأفراد صلاحيات واسعة في تقرير مصير الناس، فإنه بلاشك سيشيع مرض التملّق بشكل واسع حيث يبدأ الناس بشكل متدرج بالتملق أولاً لمختار المحلة ثم للموظف الحكومي وبعد ذلك لرجال الشرطة وهكذا ترتقي مستويات التملق مع ارتقاء درجة ومستوى الشخص المسؤول أو الفرد المعني بأمور الناس، وربما يكون هذا الشخص هو أقل مستوى من ناحية الرتبة أو المنزلة الاجتماعية من مختار المحلة، لكنه يحظى بدرجة عالية من التملق من قبل الناس بما يملكه من قدرة و صلاحيات واسعة في التحكم بمصائر الناس، كرجل الأمن أو العنصر في حزب البعث، فهؤلاء الأشخاص كانوا يمتلكون صلاحيات واسعة في الشارع العراقي، ولهذا كان الناس يتملقونهم لدفع أذاهم.
السؤال هنا: لماذا هذا التملق والإسلام قد نبذ هذه الصفة وجعلها من الرذائل؟
لقد قرأت قبل مدة مقالة في احدى المواقع المعروفة لكاتب عراقي وهو في مقالته يذم العراقيين ويشتمهم ويطلق عليهم صفة النفاق مذكّراً بموقف أهل الكوفة! وقد أزعجني ما كتبه فأجبته بهذا الرد: (يا عزيزي الكاتب لقد اقتطعت من التاريخ ما تحن إليه مخيلتك، لكنك نسيت أن العراقي هو صانع الحضارات وهو صانع الحروف و معلم البشرية وهو أبو القانون وغير ذلك من الانجازات .. وكان الكاتب قد اقتطع فترة غدر أهل الكوفة بالإمام الحسين (عليه السلام) وعدها دلالة كبرى على وجود هذه الصفة في أهل العراق.
لكن يبدو واضحاً إن التطرق الى هذا الموضوع وتقليب صفحات الماضي بشكل غير مدروس وغير موضوعي، هو الآخر نوعاً من التملّق عن قصد أو دونه لأطراف وجهات خارجية تسعى اليوم وبعد حصول التطور الكبير والتاريخي في العراق، أن تكرس الحالة الماضية في المجتمع العراقي وتجعله حالة مستديمة.
فنحن لانستطيع أن نحكم على تاريخ أمة من خلال برهة عصيبة من الزمن مرت بها تلك الأمة، فمن أكبر الأخطاء أن تحكم على أمة من خلال دراسة فترة زمنية محدودة من عمرها، بل يمكن القول أن ما حدث بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام مع أهل الكوفة هو عنصر مقوم للحضارة لا مثبط لها، فالعراقيون يتعلمون على مر الأيام الدرس من قضية أهل الكوفة فلا يسقطون بنفس المتاهة مرة أخرى ولن يكرروا التجرية مرة أخرى، فليس المهم هو أن يخطأ الانسان لكن المهم هو أن لا يكرر الخطأ.
نعود ونقول: حالة النفاق والتملق إنما تنتشر في وسط بيئة مريضة ساعدت على نمو وانتشار هذا المرض، وهي بيئة اللاقانونية واللا دستورية، وعادةً ما يرغب المسؤولون سواء أكانوا رؤساء أم مدراء وايضاً أحزاب أو حتى حكومات ودول يرغبون بأن لاتقر في البلدان التي يحكمونها قوانين وتشريعات، ولذلك هم يستفيدون من دساتير مؤقته أو يخضعون بلدانهم إلى الأحكام العرفية، وهذا يسمح لهم بالتصرف بالأمور كما يحلو لهم ومن دون رعاية أو خوف من قوانين تردعهم، فالقوانين تحد من صلاحيات الرئيس وتمنعه من الإستفادة مما يملكه من قدرات من أجل مصالحه الفردية أو الحزبية، بل إن هذه القوانين ستحاسبه إذا أخطأ وخرج عن الخط العام لسلطته، وهذا ما نراه سائداً في البلدان الغربية حيث يحاكم الوزراء ورؤساء الوزراء لمجرد الخروج عن مستوى صلاحياتهم أو الإستفادة من مواقعهم الحكومية من أجل مصالح شخصية.
فليس من مصلحة المسؤول تشريع دستور أو قانون للبلد أو المؤسسة أو الحزب، حتى يتلاعب بالأمور كيفما يحلو له، ولاشك أنه سيبرر لنفسه هذا الوضع، ويقول أن إقرار القوانين الجديدة سيضر بالمصلحة العامة، أو أن البلاد ستدخل في تعقيدات تشريع القوانين وما إلى ذلك. لكن العامة يجب أن تصر على الدستور وتشريع القوانين لأنه بلاشك سيكون هذا الأمر من مصلحتها.
صحيح أنه لو حدث مثل هذا الأمر فإنه لن ينه تماماً ظاهرة النفاق والتملق لكنه سيحد من إنتشارها، فالرئيس أو الوزير أو المسؤول الذي لم يدع له القانون فرصة التلاعب والإستفادة من أي منصب لمصلحة نفسه أو الأشخاص المقربين إليه، فإنه لن يتمكن من مخالفة القوانين، كما لن يستطع الأفراد المتملقون الاستفادة من موقعية ذلك المسؤول للحصول على المكاسب والإمتيازات المخلتفة لأن حتى المسؤول مقيد بمحدوديات تمنعه من التطاول على القانون. وعلى أمل أن يأتي اليوم الذي ينعم فيه الناس بالحياة الكريمة وفق قيم القانون.
|
|