كربلاء .. منطلق الثورات ومقبرة الطغاة
|
*أنور عزّ الدين
بعد جدّ واجتهاد، توصل البعض الى نتيجة مفادها إن يزيد الذي خلف أباه معاوية على عرش السلطة، كان غبياً في اصطدامه بالإمام الحسين (عليه السلام)، فيما كان (عليه السلام)، يرنو نحو استعادة الخلافة التي تخلّى عنها أخاه الإمام الحسن (عليه السلام)، وهنالك مقولة يروّج لها اصحاب هذا الرأي في أوساطنا الثقافية، وهي إن معاوية وقبل أن يستسلم للموت، أوصى ابنه يزيد بان يستثني شخصين في أمر البيعة: أحدهما الإمام الحسين (عليه السلام) والآخر عبد الله بن الزبير، حتى يأمن شرهما، وهذه المقولة تشير بوضوح الى الدهاء الذي كان يتصف به معاوية، وهو ما كان يفتقر اليه ابنه يزيد – حسب اصحاب هذه المقولة- .
لن نناقش هذا الرأي في هذا الحيّز المحدود، إنما نسلط الضوء ولو قليلاً على مواقف وإجراءات الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يراقب الاوضاع في الشام عن كثب، وكيف يسقط الهرِم لينزو على كرسي الخلافة المقدس متهتّك وفاسد آخر، مثل يزيد؟ وهل من دهاء معاوية أن ينصح ابنه بعدم التعرض للإمام الحسين (عليه السلام)، وهو العارف بمنزلته واستحالة سكوته على مجمل النظام السياسي والاجتماعي القائم ؟
وللعلم فقط فان معاوية ارتكب آخر منكر عظيم في حياته عندما نكث بوعده وبما أمضاه في وثيقة الهدنة مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وبدلاً من أن يسلم الخلافة الى الامام الحسين (عليه السلام)، سارع لتحويل مقاليد الأمور الى ابنه يزيد الملازم لكؤوس الخمر والسهر على الغناء والفجور و....
وحصل ما كان متوقعاً فقد أوعز يزيد في أول أيام توليه السلطة إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة بأن يأخذ البيعة له من الإمام الحسين و بعض الشخصيات البارزة، و فعلاً دُعي الامام الحسين (عليه السلام) الى دار الخلافة و عُرضت عليه البيعة ليزيد في قصة مفصلة، وكان الرفض القاطع والمشادة مع مروان بن الحكم الذي ألقمه الإمام الحجر عندما حاول تحريض الوليد على قتله إن لم يبايع.
في هذا الوقت بالذات بدأت كتب و رسائل أهل الكوفة تصل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) تدعوه للبيعة له و المجيء إلى الكوفة، وفي ظل هذه الظروف تشكلت المهمة الرسالية والحضارية للإمام الحسين (عليه السلام)، فهو سيتوجه نحو العراق للإعلان عن صرخته الرافضة للانحراف والطغيان، ثم تولّي مهمة إدارة الأمور في الكوفة بناءً على طلب أهلها، وليكون هذا بداية نشوء بديل للنظام الأموي الفاسد وعودة الخلافة الاسلامية الى مسارها الصحيح.
أرسل الإمام سفيره وممثله وابن عمه مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة ليأخذ البيعة له، بيد أن الأمور لم تسر كما قدر لها لعلم السلطة الاموية بترتيبات الإمام الحسين و سارعت إلى إستبدال والي الكوفة بشخصية حاقدة جاهلية هو عبيد الله بن زياد الذي عمل على تصفية مسلم بن عقيل سفير الثورة، واجبار أهالي الكوفة على النكث بوعودهم التي واعدوا بها الإمام الحسين بل و إجبارهم على قتاله وسفك دمه و أبنائه البرره، فألتقت جيوش الكوفة بالإمام و انصاره وأهله في كربلاء، و حصلت تلك الملحمة الرائعة حيث ضرب فيها الامام الحسين (عليه السلام) و أنصاره وأهل بيته أروع الأمثلة في التضحية و الصمود والإباء و انتهت رائعة كربلاء لتبدأ مسيرة جديدة في الامة، ولتبدأ عمليات التصحيح و التنقية لمسار الأمة بعد أن كشفت ثورة الإمام طبيعة الحكم اليزيدي الأسود، فتفجرت ثورات عديدة على امتداد حكم يزيد، ومن جاء بعده، وقبل إستعراض عبر الثورة و دروسها لواقعنا الراهن من المفيد أن نقرأ بعض ما تركته الثورة الحسينية من بصمات في الواقع الاجتماعي والثقافي آنذاك:
أولاً: أعطى الإمام الحسين بوصفه الحجة على العباد و بوصف فعله سنّة يحتج بها، شرعية للثورة حين تتوفر ظروفها، و بالطبع لا نقصد الظروف هنا إمكانية النجاح سياسياً، كلا إنما نعني وجود الخطر المحدق بالدين الذي قد يعرضه لنكسة خطيرة، حينئذ تصبح الثورة ضرورة شرعية حتى لو كلف ذلك التضحية بالنفس و المال، يقول الإمام الحسين (عليه السلام) في ذلك: (أيها الناس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسوله يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان، ولم يغير ما عليه بفعل و لا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)، و يقول في فقرة أخرى هو عليه السلام يوضخ ضرورة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف و انهى عن المنكر...).
وعلى هذا الأساس يمكن ان نعدّ هذه النصوص، شرعية للثورة و النهوض من أجل القضاء على الفساد و الإنحراف عن الإسلام، و دعوى أن الإمام الحسين (عليه السلام) له تكليف خاص به، لا تقبل نظراً إلى صراحة النصوص، و صراحة مدلولها ثلاث نقاط في وجوب الامر بالمعروف إذا ما انتشر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس.
لقد شرّع الإمام الثورة بنهجه و سيرته، و أصبحت الثورة في النصّ الفقهي قانوناً وجوبياً على القيادة الإسلامية في الرفض، و على الامة في اتباع القيادة ورفض الطاغوت.
ثانياً: لقد حرك الإمام الحسين (عليه السلام) بتضحيته البطولية الجو الراكد و حرك نور الفجر ليقترب من ظلمات الليل الأموي و يزهقه.
ولولا ثورة الإمام لدخلت الأمة في مرحلة رهيبة من الإنطواء و الخلود إلى الظلام والانحراف بعيداً عن المعايير والقيم السماوية الصحيحة، بيد أن الإمام (عليه السلام) أوصل الأمة الى مستوى الشعور بالمسؤولية، وممارسة الوعي ومراقبة السلطة و الثورة عليها إذا انحرفت عن جادة الإسلام، وبهذا دمج الإمام (عليه السلام) بين السلطة والأمة، و جعل الأمة مسؤولة عن وجود نظام الحكم العادل الذي يحكم بما أنزله الله، ولا تسول له نفسه التعدي على الحقوق وعلى المقدسات.
|
|