قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

المعلّم المثقف ومسؤولية التغيير الاجتماعي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *عبد الكريم العامري / باحث اجتماعي
في كل مجتمع فئة وظيفتها تفسير الظواهر الطبيعية والنفسية والاجتماعية، توضح لهم ما يحيط بهم من مشكلات وأزمات لما تملكه من المعرفة توصلت إليها عن طريق التبصّر والمثاقفة والبحث العلمي، وقد نظمت فعالياتها لإنماء التراث الحضاري عن طريق تنوير المواطنين وإثراء معرفتهم، وهكذا تتشكل طبقة المثقفين.
ويتميز المثقفون عن غيرهم بآرائهم وأفكارهم العلمية المتعددة، حيث تتضارب أحياناً بحوثهم ومناقشاتهم بغية الوصول الى أكثر الحلول نضجاً وأقلها كلفة، دون أن يفرضوا سلفا وجهة نظر معينة، أو أن يمرروا من خرم ضيق كل ما يلاحظون من وقائع وحوادث، لأنهم قد نذروا حياتهم لخدمة المعرفة، والدفاع عن حرية البحث والاستقصاء، وأوقفوا أنفسهم لازدهار الإنتاج الفكري والمعرفي.
إذن، كلمة (مثقف) يجب أن تستعمل بمعنى أوسع لتشمل الدور الاجتماعي، ولا تقتصر على شخصية معينة، وطالما امتزج دور المثقف بمكانته كمواطن. فهناك وشائج وثيقة بين دور المثقف وبين الهيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فكلما ازدادت الحاجة إليه، فانه سيشغل مكانة اجتماعية أرفع وأسمى، وتكون مسؤوليته الاخلاقية أكبر، وهذا ما ينطبق على دور المعلّم، الذي يُعد أحد افراد الشريحة المثقفة، فالنظرة الاجتماعية له تحمّله مسؤولية تربوية كبيرة لما يحمله من ثقافة ومعرفة يفتقدها الآخرون، بغض النظر عن قدرها ومستواها.
ويشترك المعلم أوالمدرس مع الطالب في مسيرة التعليم والتعلّم، فأحيانا تكون الظروف القاهرة الدافع لأن يتوجه الطالب المتخرج نحو التعليم، وأن يكون مدرساً أو معلماً، كذلك الطالب ومنذ صغره يرسله ذووه أول الأمر الى المدرسة على غير إرادته في كثير من الأحيان، لذا نجد المدرس محمل بآثار طفولته، وما طرأ من مشكلات وعقبات خلال مسيرته، فتتسرب الى شعوره بمسؤولياته ورسالته، وكذلك الطالب. فالاثنان عندما يتقابلان يكون كل منهما وحدة معقدة، وراءها تاريخ طويل جدا. وعمل المعلم دون كثير من الأعمال، ذو نهاية غير منظورة على المدى القصير، كالمهندس الذي يمكنه أن يرى تصميمه بعد فترة قصيرة ويتجسد في مبنى أو جسر أو شيئاً آخر، إنما هو يسير في مسيرة طويلة مع الطالب، يقدم له المادة الدراسة مشفوعة ببعض المعارف والعلوم ليتلقاها تدريجياً، ومع مرور الزمن بامكانه أن يراه يوماً ما وقد أصبح شخصية علمية أو أدبية، أو ربما مسؤول كبير في الدولة.
ويمكن وصف المعلمين والمدرسين والأساتذة، طلاب الكليات من فئة المثقفين، لأنهم ينتمون الى مؤسسة اجتماعية أخذت على عاتقها المحافظة على التراث الحضاري الإنساني ونقله من جيل الى جيل.
ويبرز دور المثقف في المجتمع، من خلال تنظيم علاقاتنا كمواطنين في هيئة متمدنة، تمر بوضعية صعبة، بلغ التصادم القيمي فيها درجة كبيرة، فلم نعد نستطع أن نحدد بدقة مواقفنا إزاء المشكلات الناجمة من تعقد الحياة وحركتها، لذا لا يحسن بالمثقفين، أن يوقفوا أقلامهم ويهبوا إنتاجهم لترويج نوع معين من الثقافة يُقصد من ورائها بذر بذور الانحلال في الأمة، وتوسيع شقة الخلاف بين أبنائها، أو أن يختاروا الجلوس على التل، تاركين المواطنين حيارى يتخبطون في نزاع القيم والمواقف الآخذ في الازدياد يوما بعد يوم، أو يتزمتوا في وجهات نظرهم، ولا يقبلون مبادلة الرأي، ظانين إن ما لديهم هو الصواب وإن ما عند غيرهم هو الضلال.
من هنا على المثقفين أن يتعرفوا على مواطن القوة والضعف في المجتمع، ليطلعوا الرأي العام على ذلك فيجعلونه واعيا بما يحيق بالأمة من تصادم في الغايات والوسائل حتى يتدبر المسؤولون واجبهم ويعي المواطنون حقوقهم.
إن الظروف التي يجتازها العراق اليوم، والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية، آخذة بالتعقيد والاضطراب، بحيث صرنا في دوامة أزمة تصدع قيمي وفقدان الإمكانية على ربط الأجزاء المتناثرة من النسيج الاجتماعي. ليس بالمستطاع والحال هذه إيقاظ الضمائر وتعبئة الرأي العام وإلا عن طريق الفئة المثقفة التربوية الواعية بواجبها للعمل على تنبيه الطلاب الذين يخرجون الى منازلهم أفواجا، وينقلون الى المواطنين ما تتضمنه الأوضاع، حتى لا يكونوا ضحايا باردة لمختلف الدعايات.
واجب المثقفين من شريحة المعلمين لا ينحصر في تلقين الطلاب المواد الدراسية العلمية منها والأدبية، فهي تتضمن حقائق علمية ومعارف انسانية لكنها نسبية وليست مطلقة، إنما يجب اختيار المواضيع الاجتماعية التي نعتقد بأنها مهمة وجديرة بالدراسة. ولاشك فإن هذه المهمة ليست بسيطة ويسيرة، إذ يتطلب تدريس طلابنا ومواطنينا الطريقة التي يستطيعون بها أن يعرفوا كيف يكتشفون الحقائق بأنفسهم، وكيف يميزون بين ما يلصق بها من آراء ذاتية، وبين ما هي حقائق انسانية وفطرية تنبع من ضمير الانسان، فنحن وإياهم لا نعيش في عالم مملوء بالحقائق وإنما بالمواضيع الطبيعية القابلة للنضوج لتصبح مواضيع اجتماعية.
ومن المفيد تذكير المثقفين بأن موضوعا معينا ربما يؤدي الى مقاصد عديدة، فالمعنى الواحدا يمر في مراحل متعاقبة من التاريخ، وهناك جهودا منظمة تقوم بها مؤسسات خاصة وأفراد لتجريد بعض الكلمات من معانيها وأستبدالها بأخرى لغرض التأثير في سلوك الناس وثقافتهم. فإذا اختلفت معاني المواضيع، تباينت أنماط السلوك وازدادت الحدود والفواصل في المجتمع واضطربت المعايير الخلقية، لأن المعنى وظيفة تتصل اتصالا وثيقا في ربط أفراد المجتمع بعضهم بالبعض الآخر، بل ان المعنى مادة الموضوع المعتمد اعتمادا كليا على التعامل الحاصل بين الكائنات الاجتماعية. لهذا ينصب اهتمامنا على اللغة لأنها حقيقة اجتماعية، وله مسار في بعض أوجه العمل الاجتماعي.
المعنى يكون موضوعيا عاما إذا نشأ وتطور كطريقة موحدة ومتآلفة للتمتع في استعمال المواضيع لأنه يشير إلى تبادل ممكن فيما بين العلاقات وليس إلى شيء منعزل، فالمواضيع موجودة ضمن المعنى المكتسب في عملية تبادل العلاقات الاجتماعية. وليس من الممكن أن تؤدي كلمة واحدة معنى متماثلا للناس كافة، إذا كانت خبراتهم متباينة، وكلما كانت المواضيع مادية محسوسة كان الاختلاف عليها في المعنى قليلا. فالمعنى اجتماعي في طبيعته، يشتمل على وضعية اجتماعية، هي الشرط الأول لظهوره، لهذا فالعمل الاجتماعي هو أساس الوعي بالمعنى. ويمكن القول بأن المواضيع تكتسب معانيها من الإضافات التي تضيفها الكائنات البشرية وتكون نتائج لخبراتها. وعلينا أن نميز بين المواضيع الطبيعية وبين القيم الاجتماعية.