بئر العباس (ع) في المخيم الحسيني..
كان منبعاً لمياه البركة والاستشفاء قبل التهميش
|
*حسين هاشم آل طعمة
قبل الحديث عن بئر العباس (ع) لا بد من تعريف موجز لمزار المخيم الحسيني الشريف. كون الموقع الذي نحن بصدد الحديث عنه كائن ضمن حدود المخيم، وهذا المكان الشريف هو الذي اتخذ منه الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه (رض) مكاناً لنصب خيامهم فيه، وذلك في اليوم الثاني من شهر محرم الحرام عام 61 للهجرة، وعرف فيما بعد بمزار المخيم الحسيني الشريف وما زال هذا المكان الطاهر شاخصاً والى يومنا هذا. ويعد من البقاع التي يؤمها الزائرون من كل مكان.
*الموقع والمواصفات
يقع موقع بئر العباس (ع) على يسار الداخل لحرم خيمة الإمام الحسين (ع) حيث يتوسط هذا البئر ما بين الخيمة المذكورة وخيام أهل البيت (ع).
وعن قياسات ومواصفات هذا البئر المبارك فهو يرتفع عن الأرض بنحو (30سم) وفوهته من الأعلى مربعة الشكل قياس كل ركن من أركانها (1م x 1م) وعلى هذه الفوهة وضع شباك حديدي مربع الشكل قياسات أضلاعه (70سم x 70سم) مصمم وفق أشكال هندسية إسلامية جميلة الصنع والإتقان.
وتعقد بعض الزائرات المؤمنات من النساء على هذا المشبك الحديدي قطع من القماش على شكل خيوط خضراء أو بيضاء أو من ألوان أخرى والتي تسمى بـ (العلق) أو (الستارة) وذلك طلباً لاستجابة الدعاء وتحقيق المراد على أساس ما يحملن من إيمان وحب و ولاء عميق لأهل البيت (ع).
عمق هذا البئر الى الأسفل بنحو مترين وينتهي الى دكة تم بناؤها على قياس فوهة البئر، وهذا الدكة تصل الى السرداب السفلي لحرم المخيم، وهذه الدكة تكون عالية بنحو قامة رجل للداخل الى السرداب الذي يقع تحت مزار المخيم، والمبني بالطابوق الفرشي. وهذه الدكة لها باب حديد نصف دائري، وبوابة هذا السرداب تقع جهة الصحن الشرقي الملاصق لجدار الحرم وارتفاع هذا الباب حوالي متر واحد، وعرضها أقل من متر، ومن يروم الدخول ينحني بقامته ومن ثم يتجه الى عدة سلالم مؤدية الى الأسفل حتى يصل الى أرض السرداب، وعلى بعد خمسة أمتار يصل الداخل الى دكة البئر، وتحت هذه الدكة المربعة الشكل والمبنية بمادة الاسمنت بنحو عدة أمتار توجد آثار للبركة المائية النابعة من جوف الأرض للبئر الحقيقي المنسوب لسيدنا أبي الفضل العباس (ع). وهذا حسب ما وصفه لي الحاج رسول الصفار المقاول المشرف على بناء المخيم من بعد هدمه عام 2001م.
*توثيق البئر تاريخياً
في الوقت الحاضر لا يوجد أي أثر للبئر بعد أن عمدت سلطات النظام البعثي البائد بازالة آثار هذه البئر وطمرها خلال علمية الهدم التي أقدم عليها في نهاية عام 2001، لكن هذه المحاولة البائسة لن تفلح في حجب الحقائق عن التاريخ بأي شكل من الاشكال، كما لا تتمكن من قطع العلاقة الوثيقة بين ماء العباس (ع) وبين المؤمنين والموالين الحقيقيين، والمتشوقين دائماً لتعزيز الصلة بينهم وبين البطل العظيم ونموذج القيم السامية.
أما عن أقدم رواية تؤكد على حفر هذا البئر في المخيم من قبل أبي الفضل العباس (ع)، فقد جاء في كتاب (مقتل الحسين) (ع) لمؤلفه المؤرخ لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي ويعرف كتابه بـ (مقتل أبي مخنف) وهو من المعاصرين لمعركة الطف الخالدة والمدون لأحداثها، حيث قال: (وأشتد العطش بالحسين وأصحابه فقال الحسين (ع) لأخيه العباس (ع) يا أخي أجمع أهل بيتك وأحفروا بئراً ففعلوا ذلك فلم يجدوا فيها ماء، فقال الحسين (ع) للعباس (ع): يا أخي أمض الى الفرات وآتنا بشربة من الماء، فقال العباس (ع) سمعاً وطاعة...)، انتهى مضمون الرواية. وهذه هي الرواية الوحيدة التي تتحدث عن حفر العباس (ع) لهذا البئر في المخيم. وهناك روايات أخرى تتحدث عن حفر آبار أخرى بالقرب من المخيم، إلا أن هذه الروايات لا يعول عليها في هذا المقال.
*ماذا يقول الرحالة المسلمون والأجانب؟
من بعد حرق الخيام من قبل أعداء آل البيت (ع) وانتهاء واقعة الطف، لم أجد نصوصاً تتحدث عن هذا البئر، ولعل المستقبل يكشف لنا ذلك. وأقدم نصّ يتحدث عن هذا البئر المبارك كان في عام 1013 للهجرة الموافق لسنة 1604 للميلاد وذلك عندما زار الرحالة البرتغالي (تكسيرا) مدينة كربلاء المقدسة وذكر معالمها، وأشار الى المخيم الحسيني وذكر بئر العباس (ع) وكيف أنه يفيض ماءً مباركاً يتبرك منه الناس. وفي عام 1179 للهجرة الموافق لسنة 1765 للميلاد زار كربلاء المقدسة الرحالة الألماني (كارستن نيبور)، وبعد ذكره لمعالم المدينة تطرق الى ذكر المخيم الحسيني حيث وصف البساتين المحيطة بالمخيم بالحديقة الغناء الواسعة الأرجاء، و وصف بئر العباس (ع) والماء المتدفق منه والفائض منه مكوناً بركة كبيرة من الماء الى جانب المخيم وهذا الماء ممتد الى البساتين المجاورة للمخيم الشريف. وعن هذه البركة يقول (نيبور): (... وموقع هذه البركة هو نفس الموقع الذي كان الإمام العباس (ع) قد حفره لإيجاد الماء ولم يعثر على شيء منه (إشارة الى رواية أبي محنف التي ذكرناها سابقاً).
ويضيف (نيبور) بقوله: (إن الناس هناك كانوا يعتقدون بأن ظهور الماء في البركة يُعد من المعجزات). وقد أشار الى هذه البركة الرحالة البرتغالي (تكسيرا) الذي زار المدينة سنة 1604 للميلاد أي قبل مجيء (نيبور) إليها بمئة وستين عاماً، كما هو وارد في كتاب (موسوعة العتبات المقدسة) قسم كربلاء تأليف جعفر الخليلي.
كما جاء ذكر هذا البئر المشرّف من قبل الرحالة الايراني المعروف بـ (أديب الممالك) كما في كتابه بالفارسية (سفر نامه أديب الممالك به عتبات) وخلال زيارته لمدينة كربلاء المقدسة عام 1273 للهجرة الموافق 1856 للميلاد و وصفه لمعالم المدينة والمخيم الحسيني الشريف وعن بئر العباس (ع) جاء قوله: (... وتحت المخيم وجد بئر مشهورة ببئر حضرة العباس (ع) والناس يستخرجون الماء تيمناً وتبركاً ويغسلون به وجوههم ويلعنون قاتلي الحسين (ع)). ويُلاحظ كلمة (تحت المخيم) أي أن المياه تجمعت تحت السرداب الذي كان في المخيم آنذاك،
*مياه بئر العباس (ع) وكرامة المخيم الحسيني
بالاستناد على ما مرّ من الوثائق التاريخية فان مياه البئر كانت تفيض بين الحين والآخر في فضاء أرضية السرداب الواقع تحت المخيم. وذلك من خلال تسرب هذه المياه من مسامات وتشققات أرضية السرداب وجدرانه المبنية بالطابوق الفرشي.
وهذا الارتفاع في منسوب المياه لم يُؤثر على جدران الحرم المخيمي الشريف ومنذ قرون طويلة وهذه هي إحدى كرامات المخيم الحسيني الشريف وبالخصوص بئر سيدنا العباس الواقع في هذا المزار الشريف، وكان يقدم للزائرين الكرام الماء للتبرك والاستشفاء لمن يطلب ذلك، وهذا ما يؤكده أهل المنطقة ولامسه العديد من الزائرين قبل هدمه من قبل السلطات الجائرة.
*إعادة بناء بئر العباس (ع)
وعن يد الإعمار التي جالت على بئر العباس (ع) والسرداب المحيط به، فقد جاء في كتاب (ذكريات المخيم الحسيني) المخطوط وهو من مؤلفات المرحوم السيد هاشم حسن آل طعمة (الكليدار) في المخيم الحسيني الشريف. من أن المؤلف وبتاريخ 19/7/1971 قام بإصلاح السرداب المحيط ببئر العباس (ع) وجعل له ثمانية شبابيك لتهوية المكان، وأبدل التراب القديم الموجود في السرداب والذي كان يحد من تدفق المياه من البئر وجلب سيارتين محملتين بالتراب الجديد وغطى به أرضية السرداب الى ارتفاع معين لأجل التخفيف من حدة المياه المتدفقة من بئر العباس (ع).
وجاء في موضع آخر من الكتاب المخطوط (ذكريات المخيم الحسيني) أنه بتاريخ 18/4/1974 حيث قام المرحوم السيد هاشم حسن آل طعمة (الكليدار) في المخيم الحسيني الشريف ببناء وترميم بئر العباس (ع) وتعديل أرضيته وجوانبه وجلب أثنين من العمال لهذه المهمة. ومن أجل التبرك قام المرحوم (الكليدار) السيد هاشم بالعمل معهم سائلاً من الباري تعالى ببركة بئر العباس (ع) التوفيق والقبول وكلفة أجرة العمل (4 دينار و235 فلس) تبرعاً منه. كما جاء في الصفحة 21 من الكتاب المذكور.
كتبوا عن بئر العباس (ع)
(السيد محمد علي الأشيقر)
هنالك الكثير ممن كتبوا عن بئر أبو العباس (ع) في المخيم الحسيني، ومن الكتاب المعاصرين؛ الكاتب والمؤرخ السيد محمد علي الأشيقر في كتابه القيم (العباس رجل العقيدة والجهاد)، وجاء ما هو نصه: (... ويقع هذه البئر وسط المخيم والى الشمال الشرقي من محراب الامام الحسين (ع) داخل المخيم وعلى بعد عدة أمتار منه، وقد تم حفر هذا البئر مع أثنين آخرين – أو أكثر من ذلك – من قبل العباس (ع) وبأمر من أخيه الامام الحسين (ع) في يوم 7 محرم حين ألمّ بهم العطش بمن كان يقيم في المخيم، وذلك بسبب تعذر الوصول الى نهر الفرات (العلقمي) بسهولة إلا أنه مع الأسف لم يعثر على الماء في كل الآبار التي حفرت نظراً لارتفاع سطح الأرض في المنطقة التي يتواجد عليها المخيم).
وممن كتبوا أيضاً من المؤلفين المعاصرين الخطيب الشيخ عامر الكربلائي كما جاء في كتابه القيم (مزارات الأولياء في أرض كربلاء) الطبعة الثانية 1424 للهجرة، وبعد ذكره لخيمة الإمام الحسين (ع) وأهل بيته (ع) تطرق الى ذكر بئر العباس (ع) بقوله: (... وتجد فينفس المكان بئراً ينسب للعباس (ع) التي حفرها في ذلك اليوم حينما طلب الأطفال الماء من الحسين (ع) في يوم عاشوراء..).
وقبل الختام، لابد من تذكير المعنيين بان البئر بكل ما يحمل من معاني ودلالات تتعلق بالقضية الحسينية، يقبع في طيّ النسيان، وهذا ليس ما يستحقه أبو الفضل العباس والامام الحسين (عليهما السلام)، فهناك الكثير من الدعوات والخطوات تتخذ لتخليد ذكراهما وإبراز معالمهما التاريخية والثقافية، وهي جهود مشكورة ومثاب عليها، لكن الصحيح أيضاً أن لا يكون شيء على حساب شيء آخر، وأن يكون التوزيع بالسوّية في الاهتمام والرعاية.
|
|