مكانة القضاء في الإسلام و هاجس الانزلاق إلى الهاوية!
|
* طاهر القزويني
بعد أن ذاقت الأمة الإسلامية مرارة الهوان، إذ انفصلت عن دينها وعقيدتها، وقعت في الشبهات، وهي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم تتمرغ في وحل الشبهات، ومنها أن المسلمين يحتكمون لدى الحكام الظلمة فلا يحكم لهم بعدل ولا يقبل الله منهم ذلك، فتصبح أموالهم محرمة وأمتعتهم و أراضيهم وبيوتهم مختلطة بالحرام، أنها الشبهة بل الفتنة العظمى التي لايفلت منها مؤمن ولا فاسق.
وفي رواية عمر بن حنظلة قال: سألت الامام الصادق (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان، أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ فقال: من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به... (فروع الكافي، ج7، ص412).
نعم؛ إذا كان الطاغوت قد حكم لصالحه وكان حقه، فهو يأكل سحتاً وحراماً فكيف إذا كان الحكم باطلاً؟!
ويا لها من مصيبة عظمى نزلت بهذه الأمة، بعد ما تركت ولاتها الحقيقيين وتمسكت بالأذناب من آل أمية الذين شقوا للدين منهجاً غير منهج رسول الله(ص) ومذهب غير مذهبه، فأصبح المسلمون يتقاضون عند حكام الجور، ويتخاصمون عند قضاة الظالمين فأصبحوا في حيرة أشدّ من الحيرة الكبرى التي وقعوا فيها من ذي قبل.
فمجلس القضاء هو مجلس عظيم وكرسي القضاء هو كرسي شاهق لايجلس عليه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي لايعرف لنفسه حداً ولالكرسيه وزناً، ولـمّا قابل الإمام علي (عليه السلام) شريح القاضي قال له: (يا شريح قد جلست مجلساً لايجلسه إلا نبي أو وصيّ نبي أو شقي) نقل هذا الحديث الإمام الصادق (عليه السلام) و ورد في وسائل الشيعة، ج18، ص7 وفي مصادر أخرى.
ويذكر هذا الحديث عادةً للتحذير من الوقوع في هذه الفتنة، وتنبيه الإنسان الذي يقدم على مثل هذا العمل، بأن ما يقدم عليه هو عمل جبار، ويجب أن يكون على علم بأصوله ومبادئه وأن لاينخرط فيه لهوى في نفسه أو رغبة دنيوية، وهناك الكثير من الآيات التي تؤيد مضمون ذلك الحديث ففي الكتاب العزيز: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ" (ص /26). وهنا نجد في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يأمر عبده داوود بأن يحكم بين الناس بالحق، فكيف سيحكم بين الناس من لايعرف الحق ولايميز بينه وبين الباطل؟
وإذا تفحصت الأمر وبحثت في هذا المضمار، فإنك ستجد أنه لايستطيع أن يكون قاضياً في زمن الإسلام إلا الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أو من أنابوا عنهم، وذلك بشهادة القرآن الكريم حيث يقول: "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (المائدة،44) وقال عزوجل أيضاً "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (المائدة،45).
في هذه الآيات هناك تأكيد على الحكم بما أنزل الله، بمعنى أن الذي يحكم ويقضي بين الناس يجب أن يحكم ويقضي بما أنزل الله. وهنا السؤال: من الذي يعرف حقاً وصدقاً ما أنزل الله من الكتاب؟
لايعرف الكتاب كاملةً إلا الله عزوجل والنبي وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فهم أعرف الناس بما أنزل الله من الكتاب، لأنهم عدل القرآن، فهم الأحق بأن يحكموا بما أنزل في شؤون الدولة أو في شؤون القضاء، ومن يشك في كون هذه الميزة هي مختصة بالنبي وآل بيته الأطهار (عليهم السلام) فليراجع التاريخ وسيجد العشرات من الروايات في كتب المسلمين وهي تبين خطأ الحكام والقضاة من غير آل بيت النبوة وهي أدلة كافية لإثبات عدم معرفة هؤلاء باحكام الله والكتاب كاملة.
وهناك روايات وأحاديث كثيرة وهي تنذر من الحكم بدون علم أو بدون تنزيل فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله فقد كفر، ومن حكم في درهمين فأخطأ كفر) (البحار، ج104، ص265).
ولابد أن نعرف ما هو المقصود بالكفر أو الفسق وغيرها التي وردت في الأحاديث وآيات سورة المائدة؟ فهل هذا هو الكفر الذي يخرج الإنسان من الدين الإسلامي؟
الإمام السجاد (عليه السلام) هو الذي يجيبنا على هذا السؤال، في هذه الرواية التي وردت عن حكيم بن جبير قال: ... ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته عن هذه الآيات التي جاءت في سورة المائدة وحدثته أني سألت عنها سعيد بن جبير ومقسماً، قال: فما قال مقسم؟ فأخبرته بها، قال: صدق ولكنه كفرٌ ليس ككفر الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك) (الدر المنثور، ج2، ص287).
فالكفر المذكور في الآيات الكريمة هو مختلف عن الكفر الذي يعني الجحود بالله، لكن هذا النوع من الكفر الأولي والصغير هو الذي يقود إلى الكفر الأعظم.
وأفضل من وصف حال هذا الإنسان المتردي لزي القضاء من دون علم هو الإمام علي (عليه السلام) فهو يكشف حقيقته الواهية والجرائم التي يرتكبها بحق نفسه وحق الآخرين ويقول في خطبة له: (إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان؛ و رجل جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثاً من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت: لايدري أصاب أم أخطأ، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعجّ منة المواريث...) (نهج البلاغة، خ17).
إذن، في ظل الحاكم الجائر والقاضي الجاهل تضيع الحقوق وتعج المواريث وتصرخ الدماء من ما يلحق بها من ظلم، فيحكم على المظلوم ويطلق الظالم، ويداري الثري ويغلض مع الضعيف ويقف إلى جانب القوي، فمن كانت هذه صفته لايستطيع أن يكون عادلاً، ومصيره إلى نار الجحيم، فقد روى إبن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) إنه قال: (من جعل قاضياً فقد ذُبح بغير سكّين: فقيل يا رسول الله: وما الذبح؟ قال: نار جهنم) (مستدرك الوسائل، ج3، ص173).
من يقرأ الأحاديث التي تذكر القضاة وما ينتظرهم من حساب وكتاب، يبرز هذا السؤال أمامه: إذن ماذا يفعل المسلمون في ظل غياب النبي وآل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام، فهل يتركون عمل القضاء؟! وإلى من يتركونه؟!
صحيح هناك تحذير وتشديد حيال العمل في القضاء، لكن لابد للمسلمين من قضاة يقومون بشؤونهم ويحكمون في قضاياهم وهم عدول مؤمنون يأتيهم السند من الله العلي القدير وفي حديث عن الإمام علي (عليه السلام) يقول فيه: (يد الله فوق رأس الحاكم ترفرف بالرحمة فإذا حاف في الحكم وَكَله الله عزوجل إلى نفسه) (من لايحضره الفقيه، ج2، ص5).
فهو على طريق الهدى والحق مالم يظلم بقصد، فإذا حكم لهوى وميل إلى باطل وإبتعاد عن حق، عند ذلك سيرتفع العون الإلهي عنه ويوكله الله عزوجل إلى نفسه فيرتكب الأخطاء، ويصدر الأحكام الباطلة التي تورده نار جهنم خالداً فيها.
|
|