الانسان .. ونافذة التعرّف على الخالق
|
*أنور عزّ الدين
مقدمة
بذل الفلاسفة وأهل الفكر منذ قرون سعيهم لبلوغ مستوى الفهم الكامل للخالق والخلق والوجود، لكنهم لم يفلحوا، فاضطروا التعكّز على الماديّات لحل لغز الوجود وخلقه، مما دفعوا بالانسان الى متاهات فكرية ما يزال يدور فيها، بينما المتمعّن في آيات القرآن الكريم، يجد البصائر العجيبة والعظيمة في مسألة الخالق وأين يكون؟!
ليس اللـه في تذكرة القرآن الكريم وتوجيهه، وجوداً ولا موجوداً، وانما هو حقٌ قيوم. فالوجود رغم انه اسم مقدس من اسماء اللـه الحسنى، ورغم انه نور يُظهر حقائق الكون، و رغم انه يختلف عن الموجودات، رغم ذلك كله فهو ليس بإله، ولا اللـه سبحانه بوجود، انما الوجود خلق من خلقه، يتصرف فيه كيفما يشاء يعطيه لشيء فينقلب ظاهراً مخلوقاً.
إن اقرب الوسائل لمعرفة ان الوجود مخلوق، انما هو التصرف فيه وإعطاؤه مرة لشيء ثم سحبه منه. فهو إذاً حقيقة يديرها مالكها اللـه القدير.
والموجودات هي الأخرى ليست بإله، بل النجم والشجر يسجدان للـه، والشمس والقمر يجريان بتدبير اللـه والأرض خاشعة بامره، وأبسط الأدلة على ذلك، ان معالم الضعف بارزة في الأشياء، فلا يمكن أن تكون اللـه القدير سبحانه!
ان المبدأ الفلسفي الذي يقسم الوجود إلى ممكن و واجب، ويتصور ان القسم الأول هو الخليقة، والقسم الثاني هو الخالق. يرفضه القرآن الكريم. إذ ان اللـه ليس بوجود ولا الخليقة بوجود، انما الوجود نور مملوك للـه، وموهوب للخليقة. فكيف يمكن ان يشترك الخلق مع اللـه في قائمة واحدة نسميها الوجود. بينما هي ثلاث قوائم: اللـه، الوجود، الخلق؟! كما يرفض القرآن الكريم المبدأ الصوفي الذي يزعم ان اللـه هو ذات الموجودات. وكذلك المبدأ المادي الذي يحسب الخلائق هي ذات السيطرة الذاتية على نفسها، إذن، فهي الرب، ولا إله سواها! ذلك ان اللـه اسمى من مخلوقاته، وأجل واعلى من ملكوته، فهو خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وبينه وبين خلقه تباين في الصفات، ولا اشتراك إلا في الألفاظ التي لم توضع الا في حدود امكانيات الخلق انفسهم. والحد الفاصل بين اللـه وبين الخلق التباين المطلق بينهما، فكلما يجوز في الخلق يستحيل في الخالق وهكذا العكس.
وبهذا التباين نكشف اننا لا نقدر على تحديد الله، ولا على اكتشاف صفاته، لاننا نعيش في مناخ المخلوقين ولا نعهد صفة، الا بقدر ما هي ظاهرة في مخلوق ما. فصفة القدرة مثلاً نعرفها في الإنسان، وفي التيار الكهربائي وفي الذرة، صحيح ان صفة قدرة تتمثل فيها إلا إنها مثبتة حسب معرفتنا في المخلوق، فلا يمكننا - بطبيعة التباين بين الخلق والخالق- قياسها على اللـه، وهكذا صفة العلم والملك و.... غير ذلك.
ولكننا مع ذلك نستطيع ان نعرف ثبوت ما هو أسمى من صفات القدرة والعلم والملك المتوافرة في المخلوقات بثبوت ما هو أسمى منها وأكبر في الخالق الذي غرز في خلقه هذه الصفات المثلى. وقد نسمي ذلك الأمر الاسمى والأكبر من صفات المخلوقين بالقدرة اللامحدودة والعلم التام والملك الدائم. إلا انها لا تعني بهذه التسمية ايجاد علاقة بين قدرة الخلق و قدرة الخالق حتى تكونان سواء، او بين علم الخلق و علم الخالق أو مشيئة الخلق و مشيئة الخالق وما اشبه، إذ لا علاقة بينهما إلاّ علاقة المقابلة الشديدة الانعكاس، بل انما نريد بهذه التسمية ايجاد علاقة بين لفظ ولفظ، حتى نعرف اشارةً ما الى ذلك الأمر الأسمى الثابت للخالق.
من هنا كان اثبات أيّة صفة للـه لا يعدو ان يكون اشارة في اطار الفهم الذي نملكه الى صفاته واسمائه دون ان يكون تحديداً للـه او جعله في اطار المخلوقين وسحب صفاتهم عليه سبحانه، فاللفظ مشترك بين اللـه وبين الخلق، كلاهما لدى التسمية (قدرة وعلـم وملك) ولكن المعنى مختلف، بقدر ما هو مختلف ومتباين: اللـه وخلقـه، فأيـن هي القدرة المحدودة العرضية الضئيلة، من الاقتدار المطلق الدائم ابــداً عنـد اللـه؟ وأين هي معرفـة أحدنـا بشيء، وعلم اللـه المحيط بكل شيء، او ملكنا المتاع المحدود في الدنيا وملكوت اللـه للسموات والارضين؟!
ونحن نعرف ان اللـه حق، ولكن هل ان ثبوته يتشابه و وجودنا؟ كلا، إذ ان اللـه حق، ثابت، قيوم بذات نفسه، ونحن موجودون قائمون باللـه، وهل هي سواء قيمومة بالذات، وقيام بالغير؟! لا نستطيع ان نقول أنّ بينهما فرق كبير، حيث لا تشابه ابداً بينهما بل هما شيئان متباينان.
ومن هنا فأفضل صفة نطلقها على اللـه، هي صفة محورية تدور بين النفي والاثبات، النفي لقطع أية صلة تشابه بينه وبين خلقه، والاثبات للايمان بأنه اسمى من خلقه واكبر. فهو القادر غير مقدور، والمالك غير مملوك، والعليم ولا معلوم.
ولترسيخ هاتين الحقيقتين؛ حقيقة ثبوت اللـه وصفاته المثلى من جهة، ونفي الصفات المعروفة في المخلوقين عنه، كان لا بد من التقديس والتسبيح والتنزيه، بكلمة (سبحان اللـه) التي كثرت في القرآن، وعدّت ركيزة الأذكار في الصلاة.
إن التسبيح يجعلنا فجأة امام اللـه، إذ انه ينفي عن اذهاننا المخلوقين فيظهر الخالق، ولانه من جهة ثانية، يحل عقدة مستعصية من نفس البشر، وهي العادة على تحديد الأشياء، لأن النفس البشرية مخلوقة ومن طبيعتها التحديد، فلما تقف امام اللـه وتعجز عن التحديد، تتورط في الشبهات العقيمة مثل: كيف؟ واين؟ وماذا؟ بل حتى لماذا؟ وتريد ان تُخضع اللـه لمقاييس الخلق فتضل ضلالاً بعيداً؟ وهنا تأتي كلمة (سبحان اللـه) لتنقذ البشر مرة واحدة من ورطته الكبيرة، وتقول له: إنك امام خالق المخلوقات، حيث تعجز الالفاظ وتنهار الحدود، وتنحسر المعارف البشرية الساذجة.
ان القرآن الكريم قد بدأ سوراً كثيرة بالتسبيح، وقال انه لسان ما في السموات والارض جميعاً، وأمر بالتسبيح بكرة واصيلاً. وإذا كان يعرّف اللـه بنفي التشبيه بينه وبين خلقه فان صفاته الحسنة، انعكاس لهذه المباينة دون ان تكون صفات محدودة، مميزة متسمة بالكم والكيف والأين، فلا نعني من قدرته سوى نفي العجز عنه، ولا من علمه غير نفي الجهل منه، وهكذا، لانه لا يمكن تصور اللامحدود، او تعريف اللامتناهي.
يبقى سؤال : كيف إذاً تمكن البشر من نفي العجز والجهل عن ربهم ؟
الجواب ببساطة: وجود هذه الصفات في الخلق هدانا الى ان اللـه حق. فلو افترضنا وجود ذات الصفات في الخالق، إذاً وقعنا في المحال الذي هربنا منه، تصوّر لو انك رُميت بحجر ففحصته فلم تر فيه القدرة الذاتية، فقلت لابد ان تكون حركته من غيره، ثم افترضت ان يكون رامي الحجر حجر ساكن مثله، ألست قد تناقضت مع نفسك، إذ لو كان الحجر الثاني قادراً على التحريك وهو ساكن، فلماذا رفضت ان يكون الحجر الاول متحركاً بذاته؟!
واذا كان اللـه سبحانه منطوياً على العجز لم تكن تحتاج اليه، إذ كفى بالمخلوقين عاجزين، انما اهتدينا الى اللـه القادر بعد ان شاهدنا صفات العجز في المخلوق. ولذا لا نجد صفة عجز او ذل او صغار في المخلوق الا وتهدينا الفطرة الى تعالي اللـه عنها علواً كبيراً.
ان آيات القرآن تذكرنا مرة بعد اخرى بنوع الافعال التي تشهد على صفات اللـه تعالى، وقد تسبق التذكرةُ بالفعل، التذكرة بالصفة التي نهتدي بسببها إليها. وها نحن نقرأ القرآن الكريم فيذكرنا بصفات اللـه: قـال تعـالى: "ذَلِكَ بَأَنَّ اللـه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللـه سَمِيعٌ بَصِيرٌ"، وقـال تعـالى: "ذَلِكَ بِاَنَّ اللـه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللـه هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ"، وقـال تعـالى: "أَلَمْ تَـــرَ أَنَّ اللـه أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الاَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللـه لَطِيفٌ خَبِيرٌ"، قـال تعـالى: "لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللـه لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"،
ان نظام الليل والنهار يهدي الى تدبير رشيد، والذي يهدي بدوره الى ان اللـه سميع عليم. فهل يدبر من لا يسمع؟ او بالاحرى من لا يعرف ما يجري في محور تدبيره؟ او هل ينظم من لا يعلم؟ والثابت الذي لا يتغير يتسم بالعلو والكبرياء، فهو الحق وغيره الباطل الذي سيزول عاجلاً او آجلاً، إذاً فهو العلي الكبير، ومَن اكبر ممن يدوم بعد فناء كل شيء؟
ونظرة الى الارض وما بها من تراب ناعم، كيف ينزل اللـه عليه الماء ويحوله الى مصانع بارعة تنسج رداءً اخضر للارض؟ ان هذه النظرة تهدينا الى دقة صنع اللـه، ومن ثم الى ان اللـه لطيف خبير.
ونحن حينما نعبر بالغني عمن يملك شيئاً، ننسى انه لا يملك اشياء كثيرة، وانه قد يكون غنياً بمحض الصدفة. اما اللـه الذي له ما في السموات والارض، فهو وحده الغني الذي لا فقر معه وانه حميد لانه لم يرث الغنا، ولا جاءته صدفة، بل خلقها وابدعها ابداعاً.
وترى مـا في الارض مسخرة لك ذليلة امامك. وفي البحار حيث تجري الفلك بأمر اللـه، ترى مدى النعمة عليك. ثم تنظر الى السماء فتخشى ان تنزل عليك، إلا ان اللـه امسكها عنك، فتسائل نفسك: افليس من احاطني بهذه النعم رؤوفاً رحيماً، ومن هو اوسع رحمة من اللـه؟
ان هذا النوع من البيان ليس طرازاً رفيعاً من الأدب الموجه فقط، - وإن صادف ذلك- بل انه المنهج العلمي الذي يهدينا فعلاً الى اللـه الكبير. فنحن عاجزون، بطبيعة المحدودية التي بنا، عن ان نفكر في الخالق الذي لا تحيط به الحدود، فكان لابد ان ننظر الى المخلوقات التي نشترك واياها في المحدودية، لنجعلها معبراً الى معرفة الخالق. التفكير انما هو في المحدود. وكلما تعمقنا في معرفة حدوده وآيات عجزه او سمات كماله، توضح لدينا اكثر فاكثر صفة المخلوقية فيه، وبالطبع نهتدي هناك الى بعض آيات اللـه، لانه مباين مع مخلوقيه، فالمنهج القرآني يكرّس بيانه لمعرفة المخلوق، والنظر اليه وملاحظة جوانب الحاجة فيه، على ان ذلك معبر الى اللـه تعالى.
وهذا هو الطابع الذي يميز الحضارة القرآنية عن جاهليات الفلسفة الاغريقية التي تعمقت في ذات اللـه بعيداً عن النظر الى آياته، فضلّت ضلالاً بعيداً.
|
|