قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

شيخ الاشراق (السهروردي) و بَصَمات الفلسفة الهـيلينية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
كما ان (الفلسفة) كمفردة ومفهوم على الامكانية على فتح آفاق المعرفة وتبيين حقائق الوجود والحياة، فان الانسان الذي فضله الله تعالى وكرمه على الامكانية وله الحق ايضاً ان يتبصّر ويتحقق من صحة هذه الفلسفة او عدم صحة تلك. وقد حفلت ساحتنا الفكرية وعلى مدى عقود من الزمن باسماء فلاسفة ومفكرين قدموا ما تجود به اذهانهم وما توصلت اليه مداركهم وعقولهم من حقائق الحياة والانسان والوجود. فجاؤوا بامور جديدة غير مطروقة في الساحة الاسلامية، فظن الكثير منّا انها خشبة الخلاص من الازمات السياسية التي كانت تدور رحاها على الاغلب على مسألة مشروعية الحكم حتى بات شعار المسلمين على مدى أجيال: (لا خل لنا بين السلاطين) او (دع ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر)، وهي الفكرة الدخيلة التي نفضتها اوربا منذ القرون الوسطى المظلمة. وبذلك اصبحت هذه الافكار بديلاً (حداثوياً) عن القرآن الكريم والسنّة المطهرة التي طالما تحسّرت الأمم عليها، وفي هذا المقال نسلط الضوء على أحد ابطال هذه الساحة (الحداثوية) وهو شيخ الاشراق (السهروردي)، وهو العالم المسلم الذي ترجم و نقل الفلسفة اليونانية الى المسلمين.
السهروردي في سطور
شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي (545 هـ - 586 هـ)، هو يحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك، وكنيته أبو الفتوح، ولقبه شهاب الدين.
و (سُهْرَوَرْد) وقد تسمى (سَهْرَوَرْد) أيضاً، بلدة كردية قريبة من مدينة زَنْجان شمال غربي إيران، وهي منطقة (ميديا) القديمة. ذكرها كل من الإصطخري (ت 346 هـ)، وابن حوقل (ت بعد 367 هـ)، وياقوت الحموي (ت حوالي 626 هـ)، وهي منطقة جبلية قريبة من اقليم كردستان في ايرن، وتقع سُهْرَوَرْد غربي هذه المنطقة، وشمالي مدينة شهرزور، على تخوم إقليم كردستان العراق. وذكر ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض، ص 314) أن سهرورد تشبه شهرزور من حيث "رغد العيش، وكثرة الرخص، وحسن المكان، وخصب الناحية بحالة واسعة، وصورة رائعة، وقد غلب عليها الأكراد".
ضبط ابن خلكان في كتابه (وفيات الاعيان) كلمة (أَمِيرَكْ) في سلسلة السهروردي، بانها دلالة على هويته الكردية وقال: تعني تصغير لكلمة (أمير)، ذاكراً أن (الكاف) تلحق أواخر الأسماء للتصغير؛ وهذا أمر معروف في اللغة الكردية قديماً وحديثاً. وقد ولد السهروردي حوالي منتصف القرن السادس الهجري، ويقع تاريخ مولده بين سنتي (545 هـ / 1150 م)، و(550 هـ / 1155 م)، وأمضى سني حياته الأولى في بلدته سهرورد، وهناك تلقّى ثقافته الأولى التي كانت خليطاً من الدين والفلسفية والتصوف، وكباقي اقرانه من طلبة العلم والمعرفة في تلك الفترة، جال السهروردي البلاد شرقاً وغرباً لطلب العلم، لكنه لم يسر على طريق واحد في اختيار الاساتذة والمعلمين، فكان ممن تأثر بهم من مذاهب شتى، فمن البعض أخذ التصوف ومن الاخر اخذ الفلسفة. غادر بلدته سهرورد وهو صغير السن إلى مَراغة وإصفهان، وغرباً إلى بلاد الشام وآسيا الصغرى - تركيا حالياً- ومن أساتذته الأوائل في مراغة مجد الدين الجيلي أستاذ فخر الدين الرازي، وفي إصفهان التقى بتلامذة الفيلسوف الشهير ابن سينا، واتصل السهروردي بالشيخ فخر الدين المارديني، وكانت بينهما صحبة، ويبدو أثر ذلك في مذهبه المَشّائي، وسافر إلى ديار بكر أيضاً، وكان يفضل الإقامة فيها، واتصل بأمير خربوط عماد الدين قَرَه أرسلان، وأهدى إليه كتابه (الألواح العمادية)، واستقر به المقام أخيراً في مدينة حلب، وهناك كانت نهايته قتلاً على يد الملك غازي بن صلاح الدين الايوبي بعد ان كثر الحديث حول آرائه الفكرية حيث أتهم بالزندقة، وجاء قرار الملك الايوبي على خلفية فتاوى جمع من العلماء المسلمين آنذاك.
البحث عن الثقافة الاصيلة
يبحث الانسان عادة عن مقياس للثقافة يستطيع ان يحدد به الافكار التي ترد عليه، فيميّز بين ماهو نافع وما هو ضار من الافكار التي يستقبلها. فكثيراً ما نواجه السؤال القائل: ماهي الثقافة الاصيلة، وماهي الثقافة الدخيلة ؟ ماهي الثقافة التي يمكننا ان نستسلم لها من دون تردد، وماهي الثقافة التي لابد ان نرفضها ؟
ان أي ثقافة إنما تنتهي بالتالي الى خطوط عريضة تجمعها الفلسفة، فكل ثقافة تقع ضمن اطار معين، وتنطلق من قواعد اساسية محددة. وهذه القواعد هي التي يجب ان نقف عليها ونفهمها لكي نفهم طبيعة تلك الثقافة.
فاذا اردت أن تعرف طبيعة ثقافة انسان ما، عليك الوقوف على الفلسفة التي يؤمن بها؛ فلو كان - على سبيل المثال- يؤمن بالفلسفة المادية، فان هذه الفلسفة سوف تكتنف كل جوانب تفكيره وستؤطر افكاره وتحدد ثقافته وسائر معلوماته ومعارفه، وكذلك الحال لو كان يؤمن بالحكمة الالهية.
إذا كانت هذه الحقيقة معروفة و واضحة، فلا بد ان نبني عليها حقيقة أخرى، وهي ان ثقافة البشرية جمعاء تعود بالتالي إلى خطين اساسيين: خط الفلسفة الالحادية الشركية، وخط الفلسفة الايمانية التوحيدية. وبالتالي فان كل ما عند البشر من الثقافات يعود الى أحد هذين الجذرين الرئيسين ؛ جذر الشرك أو جذر التوحيد.
والجذر الاول، وهوجذر الشرك في عالمنا اليوم يرجع الى لون واحد من الثقافات. وقد توصل المؤرخ المعروف (آرنولد توينبي) - 1889-1975- الذي درس الحضارات البشرية، الى نتيجة واحدة وهي انه كانت هناك حضارات عديدة في العالم، وربما كانت تزيد على عشرين حضارة لكنها بادت وانتهت، وان الحضارة القائمة اليوم انما هي واحدة من تلك الحضارات وهي المسماة بـ(الحضارة الهيلينية) *. او الحضارة الغربية الحديثة - إن استطعنا ان نطلق عليها اسم حضارة وهي ليست إلا امتداداً للحضارة الهيلينية القديمة - بل لوتصورنا ان الحضارة الهيلينية كانت كتابا فما تسمى اليوم بالحضارة الغربية لم تكن سوى نسخة عن ذلك الكتاب.
لقد استطاع اليونان ان ينشروا افكارهم بما كانت لهم من قدرات كافية عبر موجات متلاحقة ومترامية الى مختلف البقاع والآفاق، فقد انتقلت افكارهم الى روما واستمرت خلال القرون الوسطى حتى تجددت فيما يسمى بعصر النهضة. فمنطق ارسطو مازال يدرّس في الجامعات الاوربية الى يومنا هذا، و اللغة اليونانية تعد جذر لغة الاوربيين وحضارتهم. وهذا الاعتقاد يبدو واضحاً جلياً لنا لو استقرأنا التعابير والاصطلاحات العلمية التي يستخدمونها في كتبهم. ففي اي كتاب غربي لابد وان نواجه مثلا التعبير (لوجيك Logic) وهي يونانية لاتينية الاصل وتعني المنهج او المنطق، وتستخدم في الكلمات الاوربية الحديثة بمعنى العلم، كـ(علم وظائف الاعضاء - الفسيولوجيا Physiology) و(علم النفس - السيكولوجيا Psychology) و(علم الاجتماع - السوسيولوجيا Sociology) وغيرها.
وقد تأثر فلاسفة المسلمين بأفكار فلاسفة اليونان عبر مدرسة الاسكندرية، وذلك يعني ان الفلسفة المتأثرة بالفلسفة اليونانية انما هي امتداد للحضارة الهيلينية ايضا. فنحن إذا ما استثنينا القرآن الكريم وما بقي على اصالته الربانية من الرسالات الالهية عند المسيحيين واليهود، يمكننا القول بأن ما في العالم اليوم لا يتجاوز الحضارة الهيلينية الشركية التي نشأت إبان عصر اليونان القدماء.
ثم إن ثقافة اي مجتمع انما هي وليدة الفلسفة التي يؤمن بها ذلك المجتمع، وهذا ما نلحظه واضحا في المجمتعات الغربية. فالتعصب العنصري والانانية وحب الذات المتأصلة في الجاهلية الغربية، انبثقت كلها من قاعدة الشرك؛ والشرك لا ينتج إلاّ الجهل، بل الشرك والجهل صنوان لايفترقان. وقد تغيب الحقيقة عن البعض فيعتقد ان اوربا انما ابتعدت عن الايمان في عصر النهضة، وهذا خطأ كبير؛ فأوربا كانت بعيده عن الايمان الحقيقي منذ زمن سحيق، والاوربيون بعيدون عن الايمان بالله الواحد الصمد الفرد الاحد الذي نؤمن به نحن عبر منهج القرآن الحكيم، وانما آمنوا بأفكار الافلاطونية الجديدة التي دخلت في المسيحية عبر مدرسة الاسكندرية.
شيخ الاشراق والثقافات الدخيلة
لقد طاف السهروردي البلدان، حيث عاش فترة في زنجان ثم ذهب الى اصفهان ودرس فلسفة ابن سينا، ومن هناك ذهب الى آذربايجان ثم الى حلب حيث القى رحله هناك متقرباً الى حاكمها (الملك الظاهر) ابن صلاح الدين الايوبي، إلا أنه جوبه بمعارضة من قبل الفقهاء الذين كانوا يحذرون من عودة الحركات الباطنية، فكان نتيجة لتلك المعارضة ان كفّروه للاتهامات التي وجهت اليه من قبيل انه يكفر بختم النبوات بالنبي وبإمكانية ان يبعث الله تعالى نبياً جديداً بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله. ونحن لا نستبعد ذلك من خلال افكاره، وان كان بعض المؤرخين ينفون عنه هذه التهمة. وبالتالي كانت النتيجه ان قتل السهروردي بامر الملك الظاهر، ومن هنا اطلق عليه لفظ المقتول، واطلق تلاميذه عليه كلمة (الشهيد). غير ان شيخ الاشراق هذا الذي قتل في الثلاثينات من عمره كان له الاثر السلبي البالغ في الثقافة الاسلامية، لذلك يجدر بنا ان نقف قليلاً عند افكاره.
كان السهروردي متأثرا بثلاث شخصيات هم افلاطون وزرادشت وهرمس الذي يكاد يكون مجهولا لدى الكثير بل لدى المْؤرخين ايضا، حيث يقولون ان هرمس هذا كان حكيما كبيرا في التاريخ، بل وبعض المسلمين يدّعون ان هرمس هو النبي ادريس. غير ان هذا الادعاء بعيد عن الحقيقة كل البعد، لان افكار هرمس بعيدة عن افكار النبي ادريس، وهي بالتالي بعيده عن افكار القران الكريم. وربما تتجلى لنا الافكار التي تأثر بها شيخ الاشراق من خلال بعض عبارات كتاب له حيث يقول: (كانت في ايران القديمة امة تدار من قبل الله، وحكماؤهم الشامخون كانوا يختلفون كليا مع المجوس، واني سجلت الاصول السامية لعقائدهم التي هي أصالة النور، وقد كملتها تجربة أفلاطون الى مرحلة الشهود، وذلك في كتابي المسمى بحكمة الاشراق، ولم يسبقني الى هذا العمل أحد).
فالذي يبدو واضحاً من هذا القول ان هذا الرجل قد تجاوز رسالة الاسلام وارتبط بالفرس القدماء، وهذه الحقيقة يؤكدها الفيلسوف المعروف الملا صدرا الشيرازي حيث يقول: (الرجل - يعني شيخ الاشراق السهروردي - كان متأثـراً
بفلسفة النور عند المجوس).
هذا من جانب، ومن جانب آخر فان هذا الرجل كان منهزماً نفسيا امام الثقافات الاغريقية. فمن خلال تعبيراته نستطيع ان نقف على حقيقة وطبيعة هذا الجانب من شخصية السهروردي الذي يقول: (شاهدت ارسطو وقد ترآى لي شبحاً فسألته ما رأيك في أفلاطون ؟ ويجيبه - شبح ارسطو الذي مات قبل سهروردي بقرون متطاولة - بأن افلاطون هو اكبر فيلسوف واعظم عارف، وبأنه مؤسس الثقافة الانسانية). ويسرد سهروردي عن لسان شبح ارسطو فضائل لا تحصى عن أفلاطون!!
ثم ان شيخ الاشراق يسأل أرسطو عن مدى فهم الفلاسفة المسلمين لافلاطون، فيجيب شبح أرسطو - على لسان السهروردي طبعا - ان مدى فهم الفلاسفة المسلمين لافلاطون كنسبة الواحد الى الألف. وهذا النقل المستوحى من شيخ الاشراق، يظهر مدى ذوبان الرجل في الافلاطونية، فيحاول ان يظهر ان افلاطون هو القمة الشامخة في واقع الفلسفة، وانه ليس لدى الفلاسفة المسلمين شيء. فهو ينقل ايحاءً ورؤيا عن ارسطو لتبرير ما يذهب اليه، وما حكاه عن أفلاطون ليس وحياً منزلاً عبر شبح أرسطو، بل هو في الواقع تعبير عما يدور في خلد السهروردي. لأنه كان متصاغراً أمام أفلاطون، حتى قيل : ان السهروردي من أكثر فلاسفة المسلمين الذين صرفوا أوقاتهم في تفسير كلمات أفلاطون.
اننا حين نجد أحد المؤلفين المعاصرين يكتب كتاباً عن السهروردي ويسميه الفيلسوف الشهيد ويفصل القول عن شخصيته، فإننا نقف متسائلين حينما نعرف وباعتراف السهروردي نفسه بأنه انما كان يستقي أفكاره من هرمس وزرادشت وافلاطون، نتسائل: كيف يمكن أن يكون هذا شهيداً من أجل الاسلام. بينما في تاريخنا اسماء كبيرة مثل العلامة الحلّي والشهيد الاول والشهيد الثاني والشيخ المفيد والشريف الرضي، ضحوا بكل ما يملكون لنشر العلوم الاسلامية الى العالم، لا نجد من يكتب عنهم، فضلاً عمّا يُغمز به هؤلاء من قبل بعض أنصاف العلماء والمثقفين بانهم محسوبون على طائفة معينة، وما قدموه لا يرقى ان يكون علماً يفيد البشرية والاجيال، وقد ثبت اليوم بالدليل والبرهان خطأ هذا الرأي وباطل ما كان يذهب اليه اصحابه.
ــــــــــــــــــــــــ
هامش:
*(الهيلينية)، كلمة مستمدة من (هيلين) وهو الاسم العرفي الذي كان اليونان القدماء يطلقونه على انفسهم في الفترة المتأخرة من الحضارة الاغريقية وتحديداً في الفترة الممتدة بين القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الخامس للميلاد. وقد تحولت الى ثقافة بعد امتدت الحضارة الاغريقية الى البلاد الاوربية المطلة على البحر الابيض المتوسط.
ـــــــــــــــــــــــــ