في ذكرى مولدها السعيد ..
(فاطمة المعصومة) .. الوسيلة الى الزهراء (ع)
|
*جعفر ضياء الدين
من يروم زيارة إيران في الوقت الحاضر، تحمله اللهفة لزيارة مرقد الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فانه على الأغلب تأخذه الطرق والسبل الى قم المقدسة – 130 كيلومتراً جنوب طهران- لا لشيء سوى إن المدينة تضم وتتشرف بغريب آخر من أهل بيت النبوة الذين اضطرتهم الظروف للهجرة من أرض الآباء والأجداد، فسعدت بهم البلاد، وخاب فأل الطغاة الذين طالما عوّلوا على أسلوب التهجير والإبعاد علّه يكون تحجيماً للنور الإلهي، لكن؛ "يأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون".
إنها السيّدة فاطمة (المعصومة) بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السّلام)، وشقيقة الإمام الرضا (عليه السلام)، التي حلّت في هذه البقعة قادمة من مدينة رسول الله، فوافاها الأجل ودفنت فيها، لكن ما هي قصتها؟
*ولادتها ونشأتها*
وُلدت السيّدة فاطمة (المعصومة) في المدينة المنورة في مثل هذه الايام من شهر ذي القعدة سنة 173 للهجرة - على بعض الروايات- وترعرت في بيت الإمام الكاظم (عليه السّلام)، فورثت عنه من نور أهل البيت وهديهم وعلومهم في العقيدة والعبادة والعفّة والعلم، وعُرفت على ألسنة الخواصّ بأنّها كريمة أهل البيت (عليهم السّلام)، ثم نشأت وكبرت تحت رعاية أخيها الإمام الرضا (عليه السّلام)، بعد أن أجبر هارون العبّاسي أباها على القدوم الى العراق في شهر ذي القعدة الحرام سنة 179للهجرة، وأودعه سجونه الرهيبة الواحد تلو الآخر، إلى أن اغتاله بالسمّ عام 183للهجرة، فعاشت السيّدة (المعصومة) طفولتها، مع إخوانها وأخواتها في كنف الإمام الرضا (عليه السّلام)، لكن لماذا الإمام الرضا بالذات؟
لقد خلّف الإمام الكاظم (عليه السّلام) بعد استشهاده أولاداً كثيرين، ذاعت فضائلهم ومناقبهم في الخافقين، وكان الإمام الرضا (عليه السّلام) مشهوراً بالتقدّم ونباهة القدر وعظم الشأن وجلالة المقام بين الخاصّ والعامّ.
وسُمّي بـ(الرضا) لأنّه كان رضياً لله عزّوجلّ في سمائه، ورضياً لرسوله والأئمّة (عليهم السّلام) بعده في أرضه، وقيل: لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه، كما رضي به الموافقون من أوليائه.
وجاء في المصادر أن الإمام الكاظم (عليه السّلام) أوكل الى ابنه الرضا في وصيّته أمر تزويج بناته دون بَنيه الآخرين، لأنّه الأعرف بمناكح قومه، إن شاء تزويج أخواته من الأكفاء فعل، وإن أراد أن يترك تزويجهنّ ـ لعدم وجود الأكفاء، أو لوجود ظروف قاهرة ـ ترك. كما نلاحظ أنّ الإمام الكاظم عليه السّلام تصدّق بأرض ـ حدّدها بحدودها ـ على أولاده وبناته ما دُمنَ لم يتزوّجن ولم يكن لهنّ معيل، فإن عادت إحداهن، بعد زواجها، ـ كأنْ يُتوفّى زوجها ـ عاد إليها سهمها من الصدقة، وأضحى شأنها شأن من لم تتزوّج من أخواتها.
*أمام الظروف السياسية
واجه البيت العلوي في المدينة المنورة وأيضاً السيّدة (المعصومة)، نبأ القرار الجائر والتعسفي من قبل المأمون العبّاسي باستدعاء الإمام الرضا (عليه السلام) الى خراسان التي تحولت في عهد المأمون الى عاصمة للدولة الاسلامية، وأجباره على القبول بولاية العهد.
اعتصرت لحظات الوداع قلب السيدة (المعصومة) وكانت حينها فتاة صغيرة، وهي ترى الظل الوارف يزول عن رأسها عنوة، لتبقى وحيدة في المدينة المنورة، وقد نقلت كتب التاريخ لحظات الوداع الشجيّة، وكيفية توديع الإمام لأسرته وعياله والتأكيد لهم بانه الوداع الأخير، فتحركت قافلة الإمام تحفها الدموع والأسى واللوعة في شهر ذي القعدة الحرام سنة مائتين للهجرة باتجاه خراسان.
لقد كانت الفترة الزمنية التي قضاها الإمام في خراسان قصيرة لكنها حافلة بالأحداث والتطورات التاريخية التي كادت كل واحدة منها أن تطيح بعرش المأمون وتخيب كل طموحاته ونواياه الخبيثة، لولا تدارك المستشارين والمقربين منه، منها قضية صلاة العيد التي هبّ لها الملايين من سكان خراسان، وأجبرت المأمون على التراجع عن إناطة إمامة الجماعة للإمام، وايضاً قضية المحاورة المعروفة مع أهل الأديان وإفحامهم جميعاً واستسلامهم أمام الإمام الرضا (عليه السلام)، الأمر الذي دفع المأمون بالتعجيل لتصفية الإمام وتقديم موعد الغدر به، ولعل هذه النوايا الخبيثة والأوضاع غير المطمئنة حول الإمام (عليه السلام)، هي التي أثارت القلق في نفس السيدة (المعصومة) وجعلتها تشدّ الرحال الى خراسان، ولا تنتظر أكثر من ذلك، فقد غادرت مدينة جدها رسول الله سنة مائتين وواحدة أي بعد سنة واحدة فقط من مغادرة أخيها الإمام (عليه السلام)، لعلّها تنعم بلقائه وتستقر نفسها به.
*قم .. المحطة الأخيرة*
تؤكد المصادر التاريخية أن الإمام الرضا (عليه السلام) كان على قيد الحياة عندما غادرت السيدة (المعصومة) المدينة المنورة الى خراسان، فقد أستشهد في نهاية صفر سنة مائتين وثلاثة، أما شقيقته كريمة أهل البيت، فقد كانت تحثّ الخطى، قاطعة المسافات الطوال عبر الصحراء، فهي اجتازت صحراء الجزيرة العربية، ثم العراق وايران حتى وصلت مدينة ساوة – جنوب قم- وهناك أصيبت بوعكة صحية أقعدتها عن المسير، فلزمت فراش المرض، وجاء في المصادر أنها سألت عن المسافة التي تفصلها عن مدينة قم، فقيل لها إنّها تبعد عشرة فراسخ، فأمرت بإيصالها إلى قم، فحمُلت إليها على حالتها تلك، وحطّت رحالها في منزل موسى بن خزرج بن سعد الأشعريّ، وكان أحد أبرز أعيان الشيعة هناك، ومعروفٌ أن قم كانت تسكنها منذ ذلك الحين قبائل عربية موالية لأهل البيت (عليهم السلام).
وفي أصحّ الروايات أن خبرها لمّا وصل إلى مدينة قم، استقبلها أشراف قم، يتقدّمهم موسى بن خزرج، فلمّا وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وقادها إلى منزله، وكانت في داره حتّى تُوفيّت سنة مائتين وواحدة للهجرة، فأمرهم بتغسيلها وتكفينها، وصلّى عليها، ودفنها في أرض كانت له، وهي الآن روضتها، وبنى عليها سقيفة من البَواري، إلى أن بَنَت زينب بنت الإمام محمّد الجواد (عليه السّلام) أول قبّة عليها، وللعلم فانه مع الاعتماد على تاريخ الولادة وهو 173للهجرة، فان السيدة (المعصومة) تكون قد توفيت وهي في الثامنة والعشرين من العمر.
*من تجلّيات مرقد الزهراء*
نُقل عن المرحوم السيّد محمود المرعشي النجفي صاحب كتاب (مُشَجّرات العلويّين) أنّه كان يتلهّف لمعرفة موضع القبر الشريف للصدّيقة الزهراء (عليها السّلام) فاختار ـ للوصول إلى غايته ـ خَتْماً مُجرَّباً استمرّ على أدائه أربعين يوماً، عسى أن يمنّ الله عليه بمعرفة موضع القبر المجهول، وانتهت الأيّام الأربعون المشحونة بالدعاء والتوسّل، فشاهد في عالم الرؤيا الإمامَ الباقر أو الصادق (عليهما السّلام)، فقال الإمام له: عليك بكريمة أهل البيت! أجاب السيّد المرعشي ـ ظنّاً منه أنّ الإمام يوصيه بقصد الصدّيقة الزهراء عليها السّلام: نعم ـ جُعلت فِداك ـ فلقد أتممتُ هذا الختم لأعرف موضع قبرها على وجه الدقّة، لأتشرّف بزيارتها، قال الإمام (عليه السّلام): أُقصد القبر الشريف للمعصومة في قمّ، وأضاف: لقد شاء الله سبحانه لحكمة أن يظلّ القبر الطاهر للزهراء البتول (عليها السّلام) مجهولاً، فجعل قبر السيدة (المعصومة) موضع تجلّ لقبر الصدّيقة الزهراء، وأفاض عليه من الجلال والجبروت ما كان سيقدّره لقبر الصدّيقة (عليها السّلام) لو كان ظاهراً ماثلاً.
|
|