الإمام الرضا (ع) في ذكرى مولده..
غريب خراسان .. سفير الأخلاق المحمدية
|
*جعفر عباس
في مثل هذه الأيام وتحديداً في يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام ولد إمامنا الثامن من أئمة الهدى المعصومين.. علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)..
اتفق معظم المؤرخين والعلماء من الفريقين على أن المولد المبارك حصل في سنة 148 للهجرة، وهي نفس السنة التي أستشهد فيها الإمام الصادق (عليه السلام)، وعلى وجه الدقّة بعد ستة عشر يوماً تقريباً، إذ إنّ شهادة الإمام الصادق عليه السّلام مؤرّخة بالخامس والعشرين من شهر شوّال عام 148هـ.
*الصادق يبشّر بالرضا*
وجاء في رواية أن الإمام الصادق قال لولده الكاظم (عليهما السّلام) غير مرّة: (إنّ عالم آل محمّد عليه السّلام لَفي صُلبك، وليتني أدركتُه..! فإنّه سميُّ أمير المؤمنين عليه السّلام).
و روى يزيد بن سليط قال: لَقينا أبا عبدالله – الإمام الصادق عليه السّلام- في طريق مكّة ونحن جماعة، فقلت له: بأبي أنت وأميّ.. أنتم الأئمّة المطهّرون، والموت لا يعرى منه أحد، فأحدِثْ إليَّ شيئاً أُلقيه إلى من تخلفني، فقال لي: نعم، هؤلاءِ ولْدي، وهذا سيّدهم ـ وأشار إلى ابنه موسى عليه السّلام ـ وفيه علم الحكم والفهم، والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسنُ الخلُق وحسن الجوار، وهو باب من أبواب الله عزّوجلّ، ثم أردف الإمام الصادق (عليه السلام)، وفيه أُخرى، هي خير من ذلك كلّه: يُخرج الله تعالى منه غوث الأُمّة وغياثها، وعلمها ونورها، وفهمها وحكمها، خير مولود وخير ناشئ، يحقن الله به الدماء، ويُصلح به ذات البين، ويلمّ به الشعث، ويُشعب به الصدع، ويكسو به العاري، ويُشبع به الجائع، ويُؤمن به الخائف، وينزل به القَطْر، ويأتمر له العباد، قوله حكم، وصمته علم، يبيّن للناس ما يختلفون فيه.
وبذلك نعرف الإمام الرضا (عليه السلام) وهو في صلب أبيه الكاظم ومن حديث جده الصادق (عليهما السلام)، وهذا يعني أننا لن نكون بحاجة للابتعاد في التأويل والتحليل في حياة هذا الإمام الغريب والمظلوم، حتى نعرف سيرة حياته ومواقفه وما آلت به الأمور.
أما محل الولادة، فان الواضح والثابت أن جميع أئمة الهدى مولودون في المدينة المنورة.. مدينة جدهم رسول الله، ما عدا أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي حباه الله تعالى وخصه بين خلقه أجمعين بان يولد في البيت الحرام وفي جوف الكعبة في القصة المعروفة.
وفي رواية يذكرها الشيخ الصدوق، بسند ينتهي إلى عليّ بن ميثم عن أبيه قال: سمعت أُمّي تقول: سمعت (نجمةَ) أُمَّ الرضا عليه السّلام تقول: لمّا حملتُ بابني عليٍّ لم أشعر بثقل الحمل، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً من بطني، فيفزعني ذلك ويهولني، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً. فلمّا وضعته وقع على الأرض واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، يحرّك شفتيه كأنّه يتكلّم، فدخل إليّ أبوه موسى بن جعفر عليه السّلام فقال لي: هنيئاً لكِ يا نجمةُ كرامة ربِّكِ. فناولتُه إيّاه في خِرقةٍ بيضاء، فأذَّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات فحنّكه به، ثمّ ردّه إليّ فقال: خُذيه، فإنّه بقيّة الله تعالى في أرضه.
دام العمر الشريف للإمام الرضا (عليه السلام) 49 عاماً، وكانت مدة إمامته عشرين عاماً، وهذا يعني إنه (عليه السلام)، قضى معظم أيام حياته في مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لأن المعروف أنه غادرها سنة 200 للهجرة بطلب مبطّن بالتهديد من قبل المأمون العباسي وتوجه الى خراسان، ولم يدم له المقام هناك طويلاً حتى حان الموعد الذي تنغمس فيه يد المأمون في دم الإمام، رغم ما قيل عنه، ليكون من جملة من يخاصمهم الرسول الأكرم يوم القيامة، وحصل ذلك في سنة 203 للهجرة.
*القدوة في الأخلاق*
إن أبرز ما نطالعه في حياة أئمة الهدى الصفات الاخلاقية وطريقة تعاملهم مع افراد المجتمع بمختلف شرائحهم ومستوياتهم، فهم بذلك يقدمون نموذجاً متكاملاً وموحداً للأخلاق المحمدية التي كانت من لبنات الحضارة الاسلامية الشامخة.
هذه الرواية يذكرها العلامة المجلسي في (البحار) ج49/ ص90 ، يقول ابراهيم بن العباس: ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس.
وكان (عليه السلام) قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ويقول: ذلك صوم الدهر. يقول ابن عباس أيضاً: كان (عليه السلام) كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه.
ودائماً يطول الحديث عن أخلاق وفضائل الأئمة الأطهار، لكن في هذا الحيّز ، وفي هذه المناسبة السعيدة، نقتطف زهرة من هذه الروضة العطرة وعلى عجل، لعلها تكون سبباً في تنقية نفوسنا من الشوائب والادران لاسيما في هذا العصر المظلم والكئيب.. فقد جاء في الكافي ج4 / ص23، باب من أعطى بعد المسألة، عن اليسع بن حمزة قال: كنت في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدثه، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال أدم فقال له: السلام عليك يا ابن رسول الله.. رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك (عليهم السلام) مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليّ نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك؛ فلست موضع صدقة. فقال له (عليه السلام): اجلس رحمك الله، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال: أتأذنون لي في الدخول؟! فقال له سليمان: قدم الله أمرك. فقام و دخل الحجرة وبقي ساعة، ثم فتح الباب وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: أين الخراساني؟ فقال: ها أنا ذا. قال: خذ هذا المائتي دينار واستعن بها في مئونتك ونفقتك وتبرك بها، ولا تصدق بها عني، واخرج فلا أراك ولا تراني.
وبعد أن ذهب ذلك الرجل خرج الإمام (عليه السلام)، فقال له سليمان: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟ قال: مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله (ص): (المستتر بالحسنة يعدل سبعين حجة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له).
|
|