أصلح ما بينك وبين ربك، تصلح علاقاتك مع الناس
|
*عبد الخالق مهدي
علاقة الانسان مع الله ليست منفصلة عن علاقته بالناس لأن الناس عباد الله، ومن هنا فإن هذه العلاقة تتسم بالتكاملية، فكلما توثقت علاقة الإنسان بربه والتزم احكامه ونواهيه، توثقت علاقته بالناس، والعكس يكون بالعكس ايضاً.
فإذا رأيت إن علاقتك بالناس ليست بالصورة المطلوبة، ولست موفقة فاعلم ان هناك خللا في إرتباطك بالله وبإزالة هذا الخلل تعود علاقتك بالناس طبيعية وموقفة. يهدينا الى ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام: (من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس). لكن السؤال؛ هو كيف نفهم هذه العلاقة التكاملية؟ نحن نرى في الواقع الاجتماعي افراداً يظهرون التهجّد والتعبّد الى الله تعالى وربما يكونون ممن يرتدي زي علماء الدين، لكن علاقته ليست سوّية او بالشكل المطلوب مع افراد مجتمعه. كما نلاحظ من ذوي العلاقات الاجتماعية والتنفذيين لكنهم يفتقدون العلاقة الصحيحة مع الله تعالى. فكيف ذلك؟
يمكننا الاجابة أو تقديم إضاءة لهذا السؤال الجدير، من خلال محوري الدين والاخلاق ومن خلالهما تكتمل وتصح العلاقة بين الفرد وخالقه وبينه وبين سائر افراد مجتمعه.
المحور الأول: الدين .. المعاملة
إن للدين مهمتين رئيستين في حياة الإنسان:
المهمة الأولى: تنظيم العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وذلك عندما يتعرّف الإنسان على خالقه ويخضع له ويتقيه، يقول تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ" (النحل /36)، ويتمثل هذا الجانب في الدين في تشريعاته العبادية من الصلاة والصوم وسائر العبادات.
المهمة الثانية: تنظيم العلاقة مع الناس، يقول تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (الحديد /25)، ففي هذه الآية إشارة واضحة الى أن من أهداف بعثة الأنبياء إقامة العدالة بين الناس.
والمتدين هو من يلتزم بهاتين المهمتين، بأن ينضبط بضوابط الشرع في تنظيم علاقته مع الخالق جلّ وعلا، وأن ينضبط بضوابط الشرع والدين في طريقة تعامله مع الناس، فالدين ليس طقوسا عبادية فقط، بل هو مزيج من الخضوع والتذلل لله سبحانه وفي نفس الوقت حسن التعامل والأدب مع الآخرين.
بل إن هناك نصوصا كثيرة تؤكد على أن تأدية حقوق الناس لها أولوية حتى على أداء حق الله سبحانه وتعالى، كما ورد في ذلك عن أمير المؤمنين قوله: (فجعل حقوق عباده مقدّمة على حقوقه). وقوله عليه السلام: (ألا وإن الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفر وظلم لا يطلب وظلم مغفور لا يترك، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، وأما الظلم الذي لا يطلب فهو ظلم الإنسان نفسه عند الهنات، وأما الثالث فظلم العباد لبعضهم البعض). و ورد عنه ايضاً أنه كان يقول: (والله لئن أبِيتَ على حسك السعدان مسهدًا أو أجرّ في الأغلال مصفّدًا أحب إليّ من أن ألقى الله يوم القيامة ظالمًا لأحد من العباد).
ويحكى أن الصحابة مدحوا للرسول امرأة في حسن تعبدها وأدائها للنوافل والصيام المستحب، فسألهم الرسول: وكيف هي مع جيرانها؟، فقالوا: إنها تسبّ وتشتم، فقال: لا حاجة لله في صلاتها ولا في صومها. وقد روي عن الامام الصادق عليه السلام (ان الدين المعاملة).
المحور الثاني: حفظ الحقوق ومراعاة المشاعر
شخصية الإنسان لها صورتان: مادية ومعنوية. المادية ما نراه من الإنسان في مظهره الخارجي، من لحم ودم، وما يتبع من مصالح وأوضاع مادية أخرى، كأمواله وممتلكاته الخاصة. أما المعنوية فهي مشاعره وعواطفه وما يتبع ذلك من قيمة معنوية واعتبارية للإنسان. لذا وجب على كل إنسان أن يحترم أخاه الإنسان في كلا الجانبين: المادي والمعنوي. وهذا ما يوصينا به الاسلام والقرآن الكريم.
فكما أنه لا يجوز الاعتداء على الإنسان جسديًا بالجرح والإيذاء الجسدي والقتل، كذلك لا يجوز الاعتداء عليه معنويًا بجرح مشاعره وخدش أحاسيسه وإهانة كرامته. وربما يكون التعرّض للجانب المعنوي أشد عند الإنسان من الجانب المادي، فاهتمام الإنسان بالكرامة والمكانة الاجتماعية أكثر من اهتمامه بجسمه ومظهره الخارجي، فهو يحافظ عليها من التطاول والخدش. وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (طعن اللسان أمضى من طعن السنان). والإمام الحسين في يوم عاشوراء يقول: (القتل أولى من ركوب العار).
وقد نبه رسولنا الكريم إلى هذه النقطة في تعريفه للمسلم، فروي عنه قوله: (المسلم من سَلِمَ الناس من لسانه ويده)، فقدّم حفظ اللسان على الحفظ اليد.
والآية الكريمة تأمر النبي بأن يبلغ المسلمين أن يتعاملوا مع بعضهم البعض ويتخاطبوا بالأسلوب الأحسن، يقول تعالى: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا"، حيث عبّرت الآية الكريمة بِـ "الأحسن"، أي يختاروا اللفظ والأسلوب الأحسن، وليس مجرّد الحسن.
وعندما نطالع السيرة النبوية الشريفة نجدها تؤكد على أهمية رعاية المشاعر والأحاسيس في التعامل، ننقل منها بعض المواقف:
* كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يصلي جماعة، فأخذ يسرع في الصلاة ويقتصر على الواجبات فيها، وعندما أنهى الصلاة سأله الصحابة عن سر ذلك، فأخبرهم بأنه سمع بكاء طفل، فخفف الصلاة من أجله.
* كان يُؤتى له بأبناء وأطفال الصحابة، فيحدث في بعض الأحيان أن يتبول الطفل في حجر الرسول، فيبقيه الرسول في حجره إلى أن يكمل تبوله، فيستغرب الصحابة، فيقول لهم: (إن ثوبي يطهره الماء، فما الذي يطهر قلب الطفل).
* يحضر أعرابي إلى المسجد، فيحتاج لقضاء حاجته، فيقوم بالانتحاء جانبًا ويتبول في إحدى زوايا المسجد، فيغضب الصحابة لأنه ينجّس المسجد، فيقول لهم الرسول: (لا تزعجوا الرجل، فإن دلوًا من الماء يكفي لتطهير المسجد، إنكم بعثتم ميسرين لا معسرين).
ومن الأحكام الشرعية أنه في حال نوى الإنسان الصيام المستحب، وصادف أن دعاه أحد أصحابه للإفطار فإنه يستحب له الإفطار إذا كان ذلك يدخل السرور على قلب أخيه. وهناك أحكام فقهية كثيرة لها علاقة بتنظيم علاقة الإنسان بالآخرين بحيث يحفظ لهم حقوقهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، كحرمة الغيبة والبهتان وإهانة المؤمنين وقذفهم بالباطل.
ما احوج مجتمعنا الاسلامي الى هذه التكاملية في العلاقة بين العباد وبين رب العباد، وبين الارض والسماء، واذا نجد عندنا المشاكل والازمات النفسية منها والعقائدية وحتى الاجتماعية، فهي تعود بالدرجة الاولى الى هذا الاختلال في العلاقة بين الارض والسماء، وإلا اذا كان الملتزم بالاحكام الدينية والفرائض الالهية، يلتزم بنفس الدرجة بالعلاقات الاجتماعية الحسنة، لما كان عندنا هذا التجاهل لاحكام الدين والتشكيك بالعقائد وحتى جدوائية القيم الاخلاقية، وفي الحالة المقابلة ايضاً، اذا كان العلاقات الاجتماعية ذات علاقة متوازنة مع السماء ومع الاحكام الالهية، لما كنا نشهد ونسمع التكفير والتفسيق والتكذيب، ولما كانت الثقة عندنا معدومة بالمجتمع وما يحمل من تصرفات وسلوكيات.
*مقتبس من محاضرة لسماحة الشيخ حسن الصفار
|
|