شهر رجب الأصبّ .. بوابة الى واحة التوبة
|
*علي جواد
يطلّ علينا شهر رجب الأصبّ، وهو بالحقيقة بوابة لأشهر التوبة والرحمة الالهية، يدلف من خلالها الانسان الى عالَم الصفاء والنقاء لتكون له استراحة من عناء الجري خلف الماديات والملذّات التي لا تنتهي. وما أحوجنا الى الاجواء المعنوية بعد ان احتوشتنا الاجواء المادية، من جري خلف الارباح والمناصب واقتناء السيارات والبيوت وغيرها، وربما لا يختلف معي أحد في عدم تحقق الراحة والسعادة لمن يكمل بناء بيته الكبير والجميل ويتخلص من الايجار لأن ربما ستظهر له مشكلة الجار السيئ، او يتخلص من سيارات الأجرة فيشتري سيارة ثم تظهر له مشكلة العطلات المستمرة او يصل الى موقع وظيفي مرموق ثم تبدأ المشاحنات والتجاذبات بين هذا المسؤول وذاك، وربما يواجه تكتلات الفساد وغير ذلك. حقاً ان الحياة دوامة للمشاكل والازمات، طبعاً لسان حال الكثير منّا: علينا التعايش مع المشاكل ومواكبة الظروف و... غير ذلك من العبارات التي ربما تكون معظمها صحيحة. هذا حال الاجواء المادية تجبر الانسان على تقبّل هذا الامر الواقع، بينما الاجواء المعنوية تمنح الانسان الراحة النفسية ليس خلال فترة معينة إنما طيلة أيام السنة بل طيلة فترة حياته.
ان اول محطة في طريق السعادة هو التوبة الى الله، حيث يلقي الانسان في شهر رجب الأصبّ ما علق به من أدران الذنوب والخطايا الصغيرة منها والكبيرة، إنها لفرصة كبيرة وذهبية ربما لاتعوّض ولن تتكرر، فمن يدري...؟ ربما يكون هذا الشهر هو الأخير في حياتنا، وقال النبي الأكرم عن هذا الشهر العظيم بانه (شهر الاستغفار لأمتي... ويسمى رجب بالأصب، لأن الرحمة على أمتي تُصب صباً فيه فاستكثروا من قول أستغفر الله وأسأله التوبة).
وربما يسأل البعض عن العلاقة بين التوبة كفعل يقوم به الانسان بينه وبين ربه، وبين السعادة التي ينشدها الانسان في الحياة؟
حتى لا نجانب الحقيقة فان التوبة كمفهوم وتطبيق عملي لاتنحصر فقط بعبارة (استغفر الله ربي وأتوب اليك) التي نرددها دائماً في اعقاب الصلوات، وإن كان هذا من المندوبات والاعمال الحسنة، إنما هي عملية إعادة حسابات كاملة و(فرمته) لحياة الانسان وشخصيته وعلاقاته. يقول سماحة الفقيه الفقيد آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) في حديث له حول شهر رجب الأصبّ، (لموضوع التوبة موقعٌ متميّز في علوم متعددة، فله موقع في علم الفقه، حيث يذكر (صاحب العروة) - رحمه الله- هذا الموضوع في أحكام الأموات، باعتبار التوبة إحدى الواجبات الفورية في الفقه، كما لهذا الموضوع موقع في علم الكلام باعتبار أن علم الكلام يعنى بعلم العقائد ويبحث في المبدأ والمعاد، ويُعد مبحث التوبة من فروع مباحث المعاد، وأيضاً لهذا الموضوع موقع في علم الأخلاق، باعتبار أن علم الأخلاق يتناول تعديل القوى؛ الغضبية منها والشهوية والعقلية، ويرتبط موضوع التوبة بقوتين من هذه القوى الثلاث هما: القوة الغضبية والقوة الشهوية، ولهذا الموضوع موقع في علم النفس، حيث يبحث علماء النفس حول التأثيرات العظيمة للتوبة في باطن النفس الإنسانية...).
ومع وجود هذه العلاقة بين التوبة وبين هذه العلوم الانسانية والدينية، كيف يمكن للانسان ان يجد سعادته وهو يجد نفسه غير محتاج للتوبة والعودة عن ممارساته واعماله؟ وإذن؛ لابد لنا من خطوات لنكون من الناجحين في عملية التوبة الى الله تعالى:
أولاً: أن نفهم معنى التوبة..
التوبة تعني العودة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك بعد الإبتعاد عنه، سواء بارتكاب المعصية أو بمخالفة أوامر الوجوب، كما يكون الابتعاد عنه تعالى بفعل المكروهات وترك المستحبات، والاستخفاف بصغائر الذنوب.
ثانياً: ثمن التوبة..
كما يكون الانسان مستعداً ان يدفع مقابل مكسب مالي او اجتماعي او سياسي أثماناً باهضة وباشكال مختلفة، عليه حتى يتخلّى عن تلك الماديات التي ابعدته عن الله تعالى، أن يدفع الثمن، وبدون ذلك لن تكون التوبة ذات أثر. وفي هذا المجال يقول سماحة الفقيه المقدس الشيرازي – قدس سره – (ان التوبة تتطلب نسبة من التضحية، والتضحية بالاساس عملية شاقّة وصعبة، وبالذات إذا مسّت المصالح الرئيسة للإنسان، فالإنسان لديه مصالح ثانوية وأخرى رئيسة، ولكل فئة مصالح رئيسة، فالتجار لهم مصالح رئيسة، كما للعلماء والحكام أيضاً مصالح رئيسة، حتى لكل طائفة في حياتهم مصالح ثانوية وأخرى رئيسة، وعليه فاذا مسّت التوبة هذه المصالح الرئيسة، فان التضحية بها يكون من أشقّ الأعمال على الأنسان، إلا إن المؤمن هو الذي يتحمّل هذه المشقة و الخسارة العاجلة، حتى لا يتورط في الخسارة الدائمة الآجلة).
طبعاً سماحة الفقيه الشيرازي، وكما عهده المؤمنون المتابعون لفكره النيّر والعميق، يسعى دائماً لتعميم الفكرة على جميع شرائح المجتمع ولا يستثني من افراده أحداً، مادامت القضية تتعلق بقيم اخلاقية ومسائل معنوية وروحية، لأن القضية تتعلق بالانسان كأنسان، سواء كان في صورة الكاسب في السوق او المدير في الدائرة او التاجر الكبير او العامل او حتى عالم الدين الكبير. وهنا تحديداً نفهم اهمية ومحورية التوبة في حياتنا.
وحتى نكون اكثر قرباً للواقع نقول: ان اكبر عقبة تقف في طريق التوبة هي المال، وهذا المال ربما لايكون بالضرورة عند السرّاق واللصوص الذين يسطون على البيوت او يقتحمون المحلات التجارية، إنما لدى أناس نعرفهم بانهم اصحاب صلاة الجماعة والزيارات عند المراقد المقدسة وحتى العطاءات في شهر رمضان وفي شهر محرم الحرام وغير ذلك، لكن اذا وصل الامر الى مسألة (الخمس) وان يُخرج – مثلاً- مليون دينار من خمسة ملايين، او ان يعيد النظر في البيت او المحل التجاري الذي يسيطر عليه وان يعيده الى صاحبه الشرعي، فانه يكون امام مفترق طريقين: إما يقبل ويخسر، وإما ان يغض الطرف ويصر على صحّة موقفه، حينها يكون من المحرومين ليس في شهر رجب الأصبّ وإنما في شهري شعبان المعظم وشهر رمضان المبارك ايضاً. لأن رجب الأصب هو شهر التوبة، و شعبان هو شهر رسول الله ورمضان المبارك هو شهر الله. فهل لهكذا انسان بهذه المواصفات ان يدخل هذه الشهور ويقول: (اني تائب) او (اني محسن) او غير ذلك؟
الى جانب قضية المال، هناك أمور عديدة في حياة الانسان الأسرية والاجتماعية والمهنية، وكما اسلفنا القول، بان التوبة تدخل عاملاً حاسماً في تقويم السلوك الاخلاقي باثنين من جوانبه؛ وهما القوة الغضبية والقوة الشهوية، فان الانسان الذي يريد حقاً ومن أعماق قلبه، عليه ان يدفع ثمن التوبة الى الله ليس فقط بدفع المال والتخلّص مما اشتبه فيه، إنما عليه ان يدفع شيئاً من ماء وجهه او سمعته التي اكتسبها بطريق غير مشروع. طبعاً هذا يعني ان الانسان يقبل بخسارة مادية او معنوية بملء ارادته وباختياره، وهذا ايضاً صعب وشاق على نفس الانسان، لكن لنعلم ان الخسارة في هذه الدنيا الفانية أهون بكثير من الخسارة في الدار الاخرة.
الأرضية الصالحة
كما ان المزارعين ينظرون في مشاريعهم الزراعية أولاً الى التربة وما اذا كانت صالحة للزراعة أم لا؟ فان الانسان عليه النظر الى الارضية النفسية وتمهيدها لتلقّي التوبة لتنزل كالماء الزلال العذب فتخضوضر النفس وتنتعش الروح. وإلا فان رجب هذا العام يأتي كما جاء في الاعوام الماضية ويذهب ليأتي في العام القادم، ونحن واقفون في مكاننا امام حركة الزمن السريعة، وربما لايستمر وقوفنا هكذا فترة طويلة فيدركنا الاجل آنئذ (ولات حين مندم). يذكر سماحة الفقيه المقدس الشيرازي (قدس سره) عن جده لأمه وكان احد التجار المعروفين في كربلاء المقدسة في سالف الزمان، وكان هذا التاجر يتخلّى عن العمل والتجارة خلال الاشهر الثلاثة؛ رجب وشعبان ورمضان المبارك، ويوكل أحداً لمتابعة أمر العمل في محل كسبه، ويتوجه هو الى الحرم الحسيني او يغادر الى النجف الاشرف او الى مدينة سامراء المقدسة، وينقل عنه قوله: (تسعة أشهر نجعلها للدنيا والتجارة والكسب وما أشبه ذلك، وثلاثة أشهر نجعلها للآخرة).
حقاً ان لزيارة المشاهد المشرفة أثراً كبيراً وعميقاً في نفس الانسان المؤمن، ففي هذه الاماكن تساعده الاجواء الروحانية على صفاء الروح والنفس وتبعده عن كل ما يدعو الكدر والعكر والمنغّصات وغير ذلك مما تسببه الاهتمامات المادية في الحياة. طبعاً هذا الى جانب الصوم في هذا الشهر وشهر شعبان المعظم، وهما الخطوة الاولى والثانية التي يرفعهما الانسان المؤمن قبل ان يدخل ضيافة الله تعالى في رمضان المبارك وهو في أحسن حال.
في شهر رجب الأصب العديد من الاعمال المستحبة والمندوبة منها التشرف بحج العمرة وتسمى العمرة الرجبية، ولهذه العمرة منزلة عند الله ويذكرها الفقهاء بانها (تالية الحج في الثواب) كما جاء في الروايات، وايضاً هناك زيارة الامام الرضا عليه السلام في غربته، وهي ايضاً لها منزلة في الاجر والثواب، هذا الى جانب الاذكار الواردة عن الأئمة المعصومين في كتب الأدعية، ابرزها ما جاء عن الامام الصادق عليه السلام ان رجلاً جاءه وسأله عن دعاء ينفعني الله فيه في شهر رجب الأصب فقال له عليه السلام اكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم. يا من أرجوه لكل خير وآمن سخطه عند كل شر...) الى آخر الدعاء المذكور في (مفاتيح الجنان). وايضاً الدعاء المأثور: (خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلا لك...).
|
|