الدولة الفاطمية البداية المشرقة والخاتمة المشرفة
|
*حسن هادي
وصلت الدولة الفاطمية أوج قوتها ونفوذها في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فسخّرت كل طاقاتها وقواها للدفاع عن الاسلام و وحدة المسلمين ومقارعة الصليبيين براً وبحراً وإخماد الفتن والاضطرابات والدسائس التي كان يحوكها حكام الاندلس وغيرهم ضدها. فالاوضاع في ذلك الوقت كانت مزرية وقد تمزقت الدولة الاسلامية وتفرقت قوى المسلمين وتشتت كلمتهم وتلاشت وحدتهم والعدو متربص بهم والخطر الداهم المهدد لوجودهم يتزايد ويتعاظم، فقد قويت شوكة الروم وزاد اصرارهم على غزو الاسلام في دياره حتى ان (نقفور فوقاس) كان يتطلع الى الزحف الى الحجاز بنفسه والوصول الى مكة المكرمة والمدينة المنورة وكانت مطامعه الهوجاء لايقف أمامها من يردعها بعد ان اخذت اطراف البلاد الاسلامية تنتقص واحدة بعد الاخرى وقد صور الشاعر ابو البقاء الرندي تلك المرحلة بقوله:
فمدينةٌ من بعد أخرى تُستبى
حتى لقد رجفت ديارُ ربيعةٍ
والشام قد أودى وأودى اهله
ـــــــــــــ العجزـــــــــ
وطريقة من بعد أخرى تُقتفى
وتزلزلت ارضُ العراقِ تخوّفا
إلاّ قليلاً والحجاز على شفا
هذه صورة معبرة عن الواقع المأساوي الذي كان يعيشه المسلمون في تلك المرحلة. وفي هذا الوقت عملت الدولة الفاطمية كل جهدها بعد ان امتد نفوذها في عهد المعز لدين الله سنة 358هـ -969م الى استعادة المدن التي استولى عليها الروم فلابد من المواجهة للحفاظ على بيضة الاسلام، فعمل الخليفة الفاطمي بحكمته اولاً على وحدة المسلمين وجمع حوله ما تشتت من القوى و وحد ما تفرق من البلاد فجمع الشمال الافريقي في كيان واحد وقيادة واحدة وقضى على محاولات التجزئة فاصبحت دولة قوية متماسكة بعد ما كانت عدة دول متطاحنة ومتشابكة. ولم تقتصر الوحدة على الشمال الافريقي وحده، بل تعدته الى بلاد اخرى كفلسطين وسوريا ولبنان فالتقى الشمال الافريقي مع هذه الدول بكل امكانياتها وكفاءاتها وموادرها تحت قيادة حكيمة حازمة تسلمت زمام الوحدة الكبرى لانقاذ الاسلام من الخطر الذي يتهدده.
وكان جهد الخليفة الفاطمي المعز في اول الامر استرداد ماتساقط من بلاد الشام في ايدي الروم الذين وصلوا الى حمص وبعلبك واضطرت دمشق نفسها الى التسليم ودفع الجزية لهم فساروا واستولوا على بعض مدن الساحل مثل بيروت وصيدا وظل الروم يتقدمون والاستعدادات الفاطمية تتوالى لانقاذ الشام حتى اصطدموا بالروم في طرابلس الشام براً وبحراً فاوقعوا بهم الهزيمة فارتدوا الى انطاكية وكان للاسطول الفاطمي الشأن العظيم في كسب المعركة لصالحهم وكان الخليفة الفاطمي في غاية الحكمة عندما امر باعداد هذا الاسطول الضخم لرد هجمات الروم ثم استخدم هذا الاسطول بعد ذلك في الحروب الصليبية وبلغ عدد ربابنة هذا الاسطول الفاطمي خمسة آلاف ربان وعدد سفنه مائتي سفينة. واضطر الروم الى الانحياز بمراكبهم الى الجانب الشمالي الشرقي من البحر المتوسط لا يبرحونه لان هذا البحر يسيطر عليه الاسطول الفاطمي من مضيق جبل طارق حتى بيروت فاصبح اسطول المعزّ مصدر رعب للروم حتى ارسل حكامهم الرسائل المتوالية لاستدرار عطف المعز ومهادنته حتى ان مسلمي جزيرة قريطش (كريت) الذين كانوا تحت سيطرة الحكم العباسي يطلبون النجدة من المعز الفاطمي لتخليصهم من الروم.
وظلت انتصارات الخليفة الفاطمي تتوالى وبدلاً من أن يدعم حكام البلاد الاسلامية هذه الانتصارات، كانوا يوجهون طعنة في الظهر للخليفة الفاطمي بدعمهم الروم فاعتمد حاكم الاندلس عبد الرحمن الناصر الاموي على الروم في صراعه مع الفاطميين وكان يستعين بهم على الدولة الفاطمية – الاسلامية، ويحرضهم عليهم كما كان امير حلب يستنجد بـ (باسيل الثاني) امبراطور الروم ولكن القوات الفاطمية البطلة كانت ترد كيده الى نحره بدحرها قوات الروم على نهر العاصي، ويكرر المحاولة (علاّقة) بإثارة فتنة في صور يفتتحها بالاستنجاد بالروم ولكن هذه الحركة تنتهي كسابقتها بهزيمة الروم وحليفهم (علاّقة) كما يستنصر الامير حسان بن مفرج بن الجراح الطائي صاحب الرملة في فلسطين بالروم ويستعديهم على الفاطميين.
ولم يقتصر الامر على الحكام الخونة بل تعدّاه الى الفقهاء المرتزقة من وعاظ السلاطين الذين اغرتهم الاموال فراحوا يبثون فتاواهم المسمومة ضد الدولة الفاطمية وقد افتى الحافظ محمد بن احمد بن سهل الرملي بوجوب محاربة الفاطميين وانها أوجب من محاربة الروم! بقوله: (لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم ورميت الفاطميين بتسعة)! ولكن أميره حسان بن مفرج ألقى بسهامه العشرة على الفاطميين ولم يلق ولا بسهم واحد على الروم بل اضاف سهامه الى سهامهم فسلطوها على (افامية) فاستباحوها وقتلوا أهلها وغنموا منها مغانم كثيرة واستولوا على قلعتها واسروا كثيراً من أهلها.
لقد كان أفجع ما عاناه الفاطميون هو هذه الخيانات من قبل حكام يحسبون على الاسلام، لذا فقد كان على الفاطميين ان يحاربوا على ثلاث جبهات: الجبهة الشرقية وهي بلاد الشام لدفع الروم عنها، والجبهة الداخلية لاتقاء الدسائس من الخائنين، والجبهة الغربية وهي اوربا التي كانت قد استغلت ضعف الدول الاسلامية وتمزقها الى دويلات فاخذت تهاجم البلاد بلداً بعد بلد فراحت هذه البلاد تستنجد بالفاطميين كما فعلت جزيرة كريت. وكانت اوربا تحاول ضرب الدولة الفاطمية قبل ان يشتد ساعدها وتتوحد دويلاتها فهاجمتها في مواقعها الاوربية لتقضي عليها فيها ولكن الفاطميين صمدوا للاوربيين في بلادهم كما صمدوا لهم في بلاد الشام فجرت بينهم معارك ضارية كثيرة لعل اشرسها معركة صقيلة التي نقلها (ابن الاثير) في تاريخه مفصلة والتي انتهت بانتصار باهر للفاطميين بعد ان استماتوا في الدفاع عن الاسلام فهزموا الروم وقتلوا قائدهم منويل وفتحوا (رمطة) عنوة واحرقوا مراكب الروم وقد خلّد هذه الواقعة العظيمة الشاعر ابن هانئ الاندلسي الشاعر الغيور الذي ترك الاندلس والتحق بالفاطميين يشيد بانتصاراتهم وهم يذودون عن حمى الدين والوطن وقصيدته في هذه الواقعة تعد من أسمى ما جاء به الشعر العربي يقول فيها:
يومٌ عريضٌ في الفخار طويلُ
مسحت ثغور الشام أدمعها به
ــــ العجزــــــــ
لاتنقضي غررٌ له وحجولُ
ولقد تبلّ الترب وهي همولُ
ثم يخاطب الخليفة المعز لدين الله الفاطمي فيقول:
وجلا ظلام الدين والدنيا به
متكشّف عن عزمةٍ علويةٍ
فلو ان سفنا لم تحمّل جيشه
ــالعجزــــ
ملك لما قال الكرام فعولُ
للكفر منها رنةٌ وعويلُ
حملت عزائمه صباً وقبولُ
ومثلما بدأت وكانت واستمرت دولة الفاطميين تسخر طاقاتها في سبيل الاسلام، فقد كانت خاتمتها أشرف خاتمة بعد ان صنعت ما لم تصنعه غيرها من الدول، ففي ايامها الاخيرة شاخت وضعفت واستنزفت معظم قواها في مقارعة الصليبيين براً وبحراً وفي اخماد الفتن وانقاذ البلاد ومن الغزو الاوربي، وفي عام 564 شن الصليبيون حملة كبرى على مصر في عهد الخليفة المعاضد آخر الخلفاء الفاطميين، ولما أيقن المعاضد ان ليس باستطاعته مقاومة الصليبيين وان جيوشه في وضع لاتستطع معه الصمود في وجه الزحف الصليبي، آثر ان يسلم خلافته وملكه الى خصومه الذي طعنوه وطعنوا اسلافه في الصميم ولايسلمها الى الروم فلم يتوان عن تسليمها الى نور الدين محمود امير حلب ما دام يستطيع اذا ضمّ حلب الى مصر ان يدفع عن الاسلام هجوم الروم فكانت تضحية جليلة يقدمها للاسلام ليختم بذلك صفحة مشرقة ومشرفة في تاريخ الاسلام.
|
|