"نون و القلم" وتحمل مسؤولية الكلمة
|
*زكي الناصر
حمل القلم والكتابة للناس مسؤولية عظيمة، ولو علم الأدباء والكتاب ما ينتظرهم من حساب يوم القيامة لما حملوا القلم وما كتبوا شيئاً، لصعوبة اللقاء في ذلك اليوم وعظمة الموقف، وفي هذا قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: (يؤتى بصاحب القلم يوم القيامة في تابوت من نار يقفل عليه بأقفال من نار فينظر قلمه فيما أجراه، فإن كان أجراه في طاعة الله ورضوانه فُكّ عنه التابوت وإن كان أجراه في معصية الله هوى في التابوت سبعين خريفاً..." كنزالعمال، خ14957.
ومن حقنا أن نتساءل ونقول كم واحدا من الأدباء وأصحاب القلم يجعلون الله سبحانه وتعالى نُصب أعينهم عندما تخط أقلامهم الأفكار التي تسيل من أدمغتهم؟ وكم واحدا من الكتاب يراعي حدود الله والضوابط التي جعلها في بث الكلمة ونشرها؟ وكم واحدا منهم يراعي حقوق الناس ويحافظ على كرامتهم ولايمس بسمعتهم؟ وكم واحدا من الأدباء يسعى إلى نشر مفاهيم الخير والعمل الصالح؟ وكم واحدا منهم يحاول أن ينشر المفاهيم التي يدعو إليها الدين الإسلامي الحنيف، كالوحدة بين المسلمين والتعاون فيما بينهم؟
بكلمة بسيطة: هناك مفاهيم واضحة وضعها الإسلام في إطار نشر الكلمة الطيبة، وما دمنا مسلمين وننتمي إلى هذا الدين الحنيف، فإنه ينبغي علينا الإلتزام بها، ليس فقط لدواعٍ دينية بل لدواعٍ إنسانية أيضاً، لأن دعوة الإسلام هي لصالح البشرية جمعاء وإن الإلتزام بها من شأنه تحقيق السعادة لها.
وإذا حاولنا أن نستكشف المفاهيم التي يدعو إليها الدين الإسلامي في إطار نشر الكلمة سنجد أنها ذات مضامين عالية ترفع الإنسان من مستواه الأرضي المادي إلى مستويات رفيعة من الحياة المعنوية والتي يتنازل فيها الفرد عن بعض خصائصه الذاتية من أجل حياة الأمة وسعادتها.
وقد اختصر القرآن الكريم جميع تلك المفاهيم بكلمة واحدة وهي (طيّبة) فالكلمة المقروءة أو المكتوبة أو المسموعة يجب أن تكون طيبة، حتى يكون لها الدور الطيب في بناء تطور الأمة وسعادتها، وربما تكون هذه الكلمة هي الأبلغ من أية كلمة أخرى في الحديث عن الرسالة الإعلامية النافعة وعن مواصفات هذه الرسالة، فليس بالضرورة أن يجري الحديث عن الأمور الجزئية، لندع المجال للكاتب بأن يبدع في مجال الكلمة الطيبة، وأن يفتح خياله فيما يمكن أن يكون مثلاً للكلمة الخبيثة، فالكاتب وفي إطار الكلمة الطيبة سيعرف مفاهيم الخير التي يدعو إليها الإسلام الشريف، وهو أيضاً وفي إطار الكلمة الخبيثة سيعرف أيضاً ما ينبغي عليه أن يتجنبه.
من هنا، فليس الأديب بحاجة إلى من يقول له بأن هذا حسن وذاك سيئ، لان الكلمة الطيبة هي المعيار الأساس، والعقل هو الحجة، وكل إنسان "على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره". والقرآن الكريم يحترم القلم ويكرم أهله وقد نزلت آيات في تعظيم القلم، تقول الآية الكريمة: "ن * والقلم وما يسطرون" (القلم،1) في إشارة واضحة لأهمية القلم وأهمية دوره في بناء الحياة الإنسانية، فالقلم في بداية الأمر هو أهم وسيلة للتواصل بين أبناء البشر، فالكاتب يعبر عن مكنوناته الفكرية إلى الشخص الآخر عن طريق الكتابة بالقلم، فربما كان الكاتب في الشرق والقارئ في الغرب والعكس أيضاً صحيح.
وكانت الكتابة بالقلم هي من العلوم الأولية التي تعلمها الإنسان من الله سبحانه وتعالى وقال القرآن الكريم في هذا "الذي علم بالقلم" (العلق، 4) فمن أهم العلوم التي يمكن أن يتعلمها الإنسان هو علم الكتابة بالقلم، على الحروف ومواقعها في الكلمة.
إن تعلم الكتابة بالقلم، ساعد الأقوام السابقة بأن تكتب تاريخها. وتسجل الأحداث التي وقعت لها، والحروب التي جرت عليها، والتطور الذي رافق فترة نموها الحضاري، وقد استفادت الشعوب المتأخرة من ذلك التاريخ، لأن كل تجربة بشرية هي تساهم في بناء الحضارة الإنسانية.
وأهمية الكتابة يجب أن يعرفها أهل القلم، حتى يتمكنوا من أن يعطوها حقها، فليس كل من مسك القلم وخطَّ بيده أصبح كاتباً بارعاً، فربما كان متقناً لكتابة الحروف، وبارعاً في تصنيفات الكلمة، لكنه فاشلاً في توجيه الفكرة، وعاجزاً عن بيان الغاية من ذلك. فالقلم سلاح ذو حدين، ويمكن أن يستخدم لصالح الخير أو لصالح الشر، فهناك أدباء يحملون راية الدفاع عن الطغاة والمجرمين، وهناك أدباء يبررون أعمال القتل والاجرام بحق الإنسانية، وهناك أدباء يمجدون من لايستحق التمجيد ويضعون من يستحق الرفع والعلو، وهناك أدباء يعملون على تفتيت الأمة وتفكيك أوصالها من خلال بث الفرقة.
وإذا أردنا أن نأتي بمثل حول أهمية دور الكتاب والأدباء في حياة الأمة، سيكون ذلك محل إستغراب الكثيرمن الناس، والمثل هو: أن الكتاب والأدباء على إتصال مباشر مع الأمة وأكثر من إتصال العلماء والمفكرين، فعالم الدين ربما يكتب في السنة كتاباً واحداً بينما الأديب يكتب كل يوم وله توجيه في كل يوم، وله رأي في كل يوم، وله تأثير يومي على الأحداث وعلى ثقافة الأمة.
وبهذا الحجم من التأثير والدور الكبير في حياة الأمة، بنفس المستوى هي المسؤولية الملقاة على عاتقه، يجب أن يكون بنفس المستوى مليء بالثقافة والفكر والفهم والعلم حتى يكون مرضياً عندالله وعند الأمة، فليس هذا مقام للجهلة والمشعوذين والدجالين والعبثيين الذين يبثون الشكوك في قلوب الأمة ويحرفونهم عن دينهم القويم فهؤلاء ليس لهم صراط إلا الضلالة والتيه العظيم، وما وصلت إليه أمتنا من الإنحطاط إلا نتيجة لفكر هؤلاء العبثيين الساذجين الذين لايعرفون ما ينتظرهم يوم الجزاء الأوفى.
لذا أي مستوى من العلم والدين والفقه والفكر يجب أن يكون من له إتصال وتأثير على الناس أكثر حتى من إتصال العلماء؟
صحيح نحن نطالب باتصال أكبر بين العلماء والناس من أجل التأثير في حياتهم الخاصة والعامة، لكن الواقع الموجود، هو واقع مقلوب ويجب العمل من أجل تصحيحه وأن يعاد للعلماء مكانتهم الحقيقية في الأمة بعدما سلبها الطغاة والمتجبرون، لكن عندما يجري الحديث عن هذا الواقع وتحليله، فعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الأمة، وفي هذا الواقع يجب أن نقول بأن الأدباء أخذوا مكانة ثقافية مرموقة ويجب أن يكونوا بمستوى هذه المكانة والمسؤولية. فعلى أقل التقادير يجب أن يكونوا على إطلاع بالثقافة الإسلامية والمبادئ الإيمانية وبصائر القرآن الكريم، حتى لايصبحوا في يوم من الأيام (ابواق) دعائية ضد الإسلام، فأكثر الذين يعارضون مبادئ الدين الحنيف بشكل علني أوغير علني هم في حقيقة الأمر لايعرفون شيئاً عن الإسلام، ولايدركون مفاهيمه العالية.
نحن لانفرض على الأدباء بأن يصبحوا فقهاء، لكن طبيعة عملهم يفرض عليهم أن يكونوا على إطلاع واسع بثقافات العالم وبدرجة أولى بالثقافة الإسلامية ماداموا يعتبرون أنفسهم مسلمين، والإسلام لايدعو إلى نظريات مجردة وقيم سماوية بعيدة عن حاجة الإنسان، فكل قيم السماء هي على إتصال بمصلحة الإنسان المعنوية والمادية وما من تشريع سماوي إلا ويصب في مصلحة الإنسان.
|
|