ميثم التمّار. .. الولاء الصادق حتى الشهادة
|
*حسين الشمري
ان من الامتيازات العظيمة لمدرسة أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم إعداد جيل من الرجال واصحاب الايمان المتكامل والفطرة السليمة والضمائر الحية النابضة بالحب والايمان بالله وبرسوله المصطفى صلى الله عليه وآله واهل بيته الاطهار، لكن ما نواجهه اليوم هو ظلم التاريخ لكثير من هؤلاء، فهم حملوا علوماً واخلاقاً وسلوكاً من شأنه إنارة الطريق امام الاجيال ليكونوا خير نموذج وقدوة يحتذى بها، كونهم أناساً عاديين كسائر الناس، لكن نجد الشحّة في سيرتهم وأحوالهم على صفحات التاريخ، في المقابل نقلب عشرات الصفحات التي تشرح وتفصّل أحداث الغارات والمقاتل الظالمة للأمراء ومجالس اللهو والطرب وعدد الدراهم والدنانير وعدد الجواري وأوصافهن وغير ذلك كثير...
ويأتي الصحابي الجليل ميثم التمّار (رضوان الله عليه) في طليعة أولئك الذين ظلمهم التاريخ في سيرة حياتهم، رغم انه كان ذا مكانة خاصة عند أمير المؤمنين عليه السلام، وربما يكون الوحيد الذي بشّر به رسول الله صلى الله عليه وآله وباسمه لأميرالمؤمنين بأن سيكون لك صاحب ويقع عليه ما يقع من تظلمات ويستشهد على يد طاغية الكوفة.
الصلاة عند نخلة – المقتل!
انه سالم بن يحيى التمار النهرواني واصله من بلاد فارس وكان في صباه غلاماً لامرأة من بني أسد اشتراه الامام علي عليه السلام واعتقه، أي أعاد له حريته، وكان الامام عليه السلام حينها يعمل في حفر الآبار والعيون ويحيي الاراضي البور في المدينة في فترة ابعاده عن الحياة السياسية، وخلال حوالي عشرين سنة أحيا مناطق واسعة من الصحراء، حولها الى بساتين وأرض خضراء مثمرة، فكان يشتري العبيد والإماء بما يجنيه من الزراعة، ثم يعيد لهم الحرية، بعد ان يتلقوا دروس الولاية والرسالة المحمدية على يديه الكريمتين.
عندما وقف ميثم قبالة الامام علي عليه السلام سأله الامام عن اسمه، فقال: (سالم)، فقال له امير المؤمنين عليه السلام: اخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله ان اسمك الذي سماك به ابوك في العجم (ميثم)، فتعجب ميثم من ذلك، فقال: ان هذا الاسم لايعرفه احد. وكانت البداية الطيبة لدخول الصحابي الى صفّ الرساليين والموالين الحقيقيين لأمير المؤمنين والأئمة من بعده عليهم السلام.
عندما استعاد ميثم حريته اتجه الى سوق الكوفة واتخذ لنفسه مهنة بيع التمر، فعاش حياة بسيطة، لكن المهم عنده كان شيئاً واحداً هو التمسك بالاسلام والولاء لعلي بن ابي طالب عليه السلام، وكيف لا... وقد دلّه الامام عليه السلام على طريق الحرية. فوجده خير صحابي مؤمن لذا حرص الامام أمير المؤمنين على تكثيف العلاقة والصلة بهذا الصحابي الواعد، فكان خلال توليه أمور المسلمين في الكوفة، يقصد السوق بعد أدائه الصلاة للقاء ميثم، فكان يجلس عنده و يحدثه وميثم يصغي لمولاه لانه يعرف مكانة علي في الاسلام وانه باب علم النبي صلى الله عليه وآله، ومن دلائل علو مكانة ميثم وإيمانه الراسخ، أن أعلمه الامام بتفاصيل استشهاده وكيفيتها، وهو أمر نادر إلا من امتحن الله قلبه بالايمان، وذات مرة قال له الامام عليه السلام: كيف بك يا ميثم اذا دعاك دعي بني أمية - ابن زياد- للبراءة منّي...؟! فقال: والله لا أبرأ منك... فقال له (والله يقتلك ويصلبك على جذع نخلة) فقال فداك في الله قليل يا امير المؤمنين. فقال له عليه السلام: ستكون معي في الجنة وفي درجتي.
لذا كان ميثم يتعهد تلك النخلة التي وصفها له مولاه أمير المؤمنين فيزورها ويسقيها، علماً انها لم تكن سوى جذع نخلة يابسة بعد ان كانت طوال عشرين سنة نخلة باسقة يانعة تهب الرطب والظلال وكان ميثم يحبها كثيراً، لكن اعداء ميثم واعداء الدين كانوا اعداء هذه النخلة ايضاً، حيث مرّ ابن زياد ذات مرة من إحدى غزواته، فشعر انها تعيق طريقه فامر بقطعها وقتلها! فاصبحت جذعاً يابساً. لكن مع ذلك كان لا يتركها ميثم بل يأتي ويصلي عندها ركعتين كل يوم.
الأمير ومحل بيع التمر
كان محل ميثم لبيع التمر في الكوفة، محطة حضارية للاجيال على مر التاريخ، إذ حولها أمير المؤمنين عليه السلام، وكان الحاكم الأعلى للبلاد الاسلامية، الى مدرسة للحكام ومن يريد تطبيق الحكم الاسلامي ومن يريد ان يتأكد من ايمانه وولائه له عليه السلام.
فقد حصل ان ترك ميثم محله ليذهب في مشوار له، فهل يغلق المحل وهو باب رزقه؟ كلا، لكن ما هو الحل؟ انه عند الامام علي عليه السلام، الذي جلس بدلاً عن ميثم ليبيع الناس التمر، ومما ينقل في التاريخ انه عندما عاد ميثم الى محله، قدم له الامام عدداً من التمرات وقال له: ان كل تمرة علامة لتمرة وضعتها زيادة في الميزان لتكون له دليلاً على الانصاف والاحسان يوم القيامة. في كل الاحوال كان الناس يمرون من محل ميثم ويجدون الامام يبيع التمر بدلاً عنه، ليعلّمهم كيف يتعاملون – ونحن أيضاً- مع انسان غريب استوطن البلاد ويريد العيش الكريم والتعامل بالحسنى مع الناس، وخير من يطبق هذا المفهوم والمنطق هو الحاكم والمسؤول، ليتعلم الناس منه، لا أن يكون أول ظالم او من يبخس الناس اشياءهم ويتكبّر عليهم.
كما ان الغاية القصوى من التواضع والعناية الكبرى بأهل العلم والايمان فقائد كبير عند جلوسه مع بائع تمر لايوجد تقارب بينهم انما يرسم الى الناس جميعاً نظرية اجتماعية راقية يعلمها كيفية التعامل بين القائد واالرعية هذا تقدير أهل البيت عليهم السلام هنا كيف لايرتقي ميثم هذه الدرجة وهو جلس ساعات طويلة مع امير المؤمنين فكيف لايصبح عالما وهو بجوار المدرسة الشامخة وكيف لايأخذ قيماً من العجب وهو يعلمه باب مدينة العلم
الشهادة على طريق الحسين عليه السلام
تمر الايام والسنين ويتعاقب على الكوفة حكام و ولاة يشهد ظلمهم وتجاوزهم على الحرمات والدين، يسومون الناس سوء العذاب، لكن ميثم كان متنمّراً في ذات الله لا يخاف فيه لومة لائم، ولا حرّ السيوف، فقد اكتسب الشجاعة والإباء من مولاه أمير المؤمنين عليه السلام، فكان يقف بوجه ولاة معاوية مثل زياد بن ابيه في الكوفة، ويقذف في وجهه حمم الرفض والاستنكار لأي تجاوز على حقوق اهل البيت وسمعتهم الرفيعة، في وقت كانت البلاد الاسلامية مبتلية بجو مسموم من الدعاية الأموية التي فرضت سبّ الامام علي عليه السلام على المنابر!
وبالرغم من ان التاريخ بخل علينا بالكثير من تفاصيل حياة ميثم والظروف السياسية التي أحاطت بحياته منذ مواكبته لأمير المؤمنين وحتى استشهاده على يد عبيد الله بن زياد وهي فترة تخللتها تطورات وتبدلات كثيرة أعظمها وابرزها واقعة كربلاء، وهناك محاورة جرت في سجن الكوفة بينه وبين المختار بن عبيدة الثقفي تدلنا على ان ميثم استشهد بعد واقعة كربلاء. فقال للمختار: انك ستنجو وتخرج للثأر بدم الحسين عليه السلام وتقتل هذا الذي يريد قتلنا اليوم...! فلما دعا ابن زياد بالمختار ليضرب عنقه، جاءه كتاب من الشام بإخلاء سبيل المختار فاطلق سراحه، وبقي ميثم في السجن.
وكان اعتقال ميثم بسبب تصاعد حدّة المعارضة للنظام الاموي والتنديد، وكان ابن زياد يريد الاسراع بالتخلّص منه بضرب عنقه، فقال له: عندما دعاه مكبّلا بالسلاسل: اين ربك...؟! قال ميثم: انه بالمرصاد لكل ظالم وانت احد الظلمة. فقال له ابن زياد: تبرأ من أبي تراب...! قال لا أعرف أبا تراب. قال: تبرأ من علي بن ابي طالب، فقال له: وإن لم افعل، قال اذا والله أقتلك، قال اخبرني مولاي انك ستقتلني مع تسعة على باب دار عمر بن حريث، فقال ابن زياد لنخالفن صاحبك ونكذبه...! فاودعه السجن، لكن هذا السجن تحول الى مدرسة للولاء لأهل البيت، فعكف ميثم يلقي الدروس والمحاضرات على السجناء يعرفهم مكانة وفضائل أمير المؤمنين وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، فجاء التقرير الى ابن زياد بان ميثم يحرض عليه وهو داخل السجن، فأمر به أن يصلب خارج السجن، لكن هذا البطل المغوار والرسالي المؤمن لم يتوقف عن أداء رسالته، فواصل مهمته حتى بادر ابن زياد لأن يُلجم فمه. يقول المؤرخون: انه أول مسلم يُلجم في التاريخ الاسلامي.
وبعد ثلاثة أيام من صلبه طعنه أحد جلاوزة ابن زياد في خاصرته فانبعث الدم من مناخيره فخضبت لحيته بدمائه الزكية، واستشهد هذا الصحابي الجليل في نفس المكان وبنفس الكيفية التي وصفها له مولاه أمير المؤمنين عليه السلام. ليكون شاهداً على الظلم والطغيان، ودرساً لنا جميعاً.
|
|