الشهيدان ولدا مسلم في ذكراهما..
ضفاف الفرات شاهد مع الزمن على ظاهرة الخذلان
|
*حسين محمد علي
منذ اول قطرة قدم زكية طاهرة سقطت على أرض كربلاء فيالعاشر من محرم الحرام سنة 61 للهجرة، والى ما شاء الله، يبقى المظلوم يواجه الظلم بكل عزيمة واقتدار واثقاً من النصر الالهي والخيبة والخسران التي تحلق القتلة من ظالمين آل محمد صلى الله عليه وآله، وعندما نرى القباب المنتشرة في العراق وسائر البلاد الاسلامية، وهي تظلل مراقد الأئمة المعصومين وابنائهم، نعرف ونزداد ايماناً بالوعد الالهي "إن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، وليس غيرهم، فالحكام وكرسي الحكم كالدولاب شأنه الدوران بأهله، يرفع أناس ويضع آخرين. لكن المهم هنا هو العبرة والدرس الذي نراه عصيّا على البعض، فعملية الخذلان التي شهدها مسلم بن عقيل لم تقتصر عليه ولم تتوقف عنده، انما استمرت لكن مع ولديه هذه المرة! كما ان عملية التسابق والهرولة نحو رفع رؤوس شهداء كربلاء والتقرب بها للطاغية طمعاً بمال الدنيا، لم تنته في تلك الواقعة، انما استمرت مع ابناء هؤلاء الشهداء، فقد سجل التاريخ بأحرف من دم واقعة استشهاد ولدي مسلم صبراً وعلى جانب الفرات أيضاً لكن بعد عام من واقعة كربلاء.
تكرار المأساة في الكوفة
كان لمسلم بن عقيل بن أبي طالب (رضوان الله عليه) ولدين أحدهما (محمد) وأمه أم ولد، والآخر ابراهيم وأمه رقيه بنت أمير المؤمنين عليه السلام. كانا في قافلة الامام الحسين عليه السلام في مسيرته نحو كربلاء، وكان عمر الأول حينها تسع سنوات والثاني ثمان سنوات، وبعد الواقعة وانتهاء فصول المأساة بحرق الخيام، فرَّ الغلامان في الصحراء لا يدريان إلى أين يتجهان، وبعد رحيل الأسارى والنساء عُثر عليهما فأرسلا إلى عبيد الله بن زياد، فأمر بسجنهما والتضييق عليهما في سجن الكوفة، وكان السجان يأتيهما بقرصين من شعير وكوز ماء كل يوم، وقد تعجب من حالهما فرآهما في حال عبادة دائمة لله عز وجل، فسألهما: من أنتما ؟ فقالا : نحن أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله، نحن أبناء مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، وما أن سمع السجان مقالتهما حتى بادر الى اخراجهما من السجن وذلك بعد مرور عام على اعتقالهما.
وبعد هروبهما من السجن ظلاّ يسيران في أحياء الكوفة حتى أنهكهما التعب وجنّهما الليل – كما حصل تماماً لأبيهما مسلم - فانتهيا إلى عجوز على باب فقالا لها: يا أمة الله... إنا غلامان صغيران غريبان، غير خبيرين بالطريق فهل تضيفيننا هذه الليلة؟ فقالت العجوز: فمن أنتما ؟ قالا: نحن من عترة نبيك صلى الله عليه وآله هربنا من سجن عبيد الله بن زياد ومن القتل، فقالت: إن لي ابناً فاسقاً قد شهد واقعة الطف مع عبيد الله بن زياد، وأتخوف أن يصيبكما هنا فيقتلكما، قالا : سواد ليلتنا هذه فقط، فآوتهما.
ولما علم عبيد الله بن زياد (لعنة الله عليه) بخبر هروبهما بعث جلاوزته للتفتيش عنهما وجعل ألف ديناراً لمن يأتي برأس أحدهما والفي دينار لمن يأتي برأسيهما. فانطلقت الجلاوزة للتفتيش وكان ابن العجوز من ضمنهم، ولما عجز وأسدل الليل ظلامه ورجع إلى منزله وجد الغلامين في البيت...! فقال لهما: من أنتما ؟ قالا له : ياشيخ إن نحن صدقناك فلنا الأمان ؟ قال: نعم...! قالا : أمان الله وأمان رسوله، وذمة الله وذمة رسوله. قال : نعم...! قالا : ومحمد بن عبدالله على ذلك من الشاهدين ؟! قال : نعم...! قالا : والله على مانقول وكيل وشهيد ؟! قال : نعم....! فقالا : نحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه وآله، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد ومن القتل. فقال: من الموت هربتما وإلى الموت جئتما!!
المال ولا غير...
في الصباح ارسل هذا الواشي ولدي مسلم مع عبد له يدعى (فليح) وأمره بقتلهما على شاطىء الفرات وجلب رأسيهما ليحضى بجائزة عبيد الله بن زياد. فقالا له : ياشيخ...! بعنا واستفد بثمننا ولا تقتلنا وتلقى رسول الله صلى الله عليه وآله بدمنا، فامتنع. قالا : إذن؛ ابعثنا إلى عبيد الله بن زياد واستلم جائزتك منه، فلم يقبل! وتوسلا به كثيراً فلم ينفع، وأمر العبد بالذهاب إلى شاطىء الفرات وقتلهما. فقالا: الله يحكم بيننا وبينك وهو خير الحاكمين!
ولما سارا مع العبد وعلم العبد أنهما من عترة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، امتنع عن قتلهما وعبر النهر إلى الجانب الآخر... وبعدها جاء ابن العجوز وبيده السيف فقتل الطفلين على شاطىء الفرات بعد أن صليا ركعتين لوجه الله، ورمى جثتيهما في الفرات، ووضع رأسيهما في جراب له وأتى بهما إلى عبيد الله بن زياد، وكان جالساً على كرسي له وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلما نظر إليهما، قام ثم قعد ثلاثاً... ثم قال: الويل لك...! أين ظفرت بهما ؟ قال : أضافتهما عجوز لنا. قال ابن زياد : فما عرفت لهما حق الضيافة ؟ قال: لا، قال : فأي شيء قالا لك ؟ فقصّ عليه ما دار بينهما من حوار. فقال عبيد الله بن زياد: فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، من للفاسق...؟! فانتدب له رجل من اهل الشام فقال: أنا له. قال عبيد الله: انطلق به إلى الموقع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه، ولا تدع أن يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه...!
وبذلك كان القتل أسرع جائزة ومكافأة من المال لذلك الواشي الوضيع الذي صدق عليه الحديث الشريف: (بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين)، فضربت عنقه ونصب رأسه على رأس رمح طويل،فأخذ الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله.
وبذلك تنتهي قصة مأساة ولدي مسلم بن عقيل بهذه البشاعة سنة 62 للهجرة، لكن انتهت البشاعة في القتل وقبلها البشاعة في النفس الأمارة بالسوء؟ بالقطع كلا... والسبب هو ان دوافع ذلك العمل الشنيع الذي فعله ذلك الانسان ما تزال كامنة في بعض النفوس، فالدوافع تتغير بتغير الظروف وتطورها، بحيث يكون بامكان القاتل او القتلة تسويغ جرائمهم مهما كانت بشعة ومروعة وحتى ان كانت الضحية اطفال رضع او نساء او غيرهم فان العملية مبررة.
|
|