(غلاء) الأسعار و(غلاوة) المواطن!
|
علي التميمي
في دول كثيرة، ومنها دول غنية كدول الخليج مثلا، وفي حال ارتفاع اسعار الغذاء وباقي السلع الاستهلاكية، وحدوث موجة غلاء عام لسبب ما داخليا او خارجيا، تسارع الحكومات الى سياسة حمائية، وتشدد الرقابة وقد تحدد اسعار الكثير من المواد، فضلا عن مساءلة وتفيعل عمل لجان حكومية مختصة بمراقبة الاسعار، وفوق ذلك تصرف للمواطن سواء اكان موظفا ام لا ، مايسمى بـ (علاوة الغلاء). كما أن قضية كهذه تفتتح عادة جولات من النقاشات والمعارك والمساءلة داخل المجالس الممثلة للشعب، فتكون احدى القضايا المهمة والمؤثرة في العلاقة بين السلطتين، بل وضمن البرامج الموضوعة على جدول الاستجوابات لما لهذه القضية من حساسية شعبية كونها تؤثر بشكل مباشر على المواطن العادي وعلى الحياة المعيشية لكل أسرة.
وهنا نتساءل، ترى كيف تنظر وتخطط الدولة عندنا في مثل هذه الحالة( اي الغلاء) ؟؟؟. وهي بالمناسبة باتت مستشرية يوما بعد آخر، ولا يشعر بها طبعا الرؤساء الثلاثة ونوابهم ولا المستشارون واعضاء البرلمان والوزراء واصحاب الدرجات الخاصة والمدراء وكبار الموظفين، الحاليين ، والسابقين معهم، إنما يئن منها كل ذي دخل محدود، فضلا عن كل فقير ومعوز وعاطل ـ وما اكثره من (جيش جرار) قد يفوق 7 ملايين انسان حسب احصاءات وتقارير وزارة التخطيط ـ يكابدها ويعايشها يوميا، في اسواق المخضر، واسواق الغذاء الاخرى، واسواق الملابس، والبضائع المختلفة.. فإذا لم تكن هناك مواساة وعدالة في تعامل الدولة، (حكومة وبرلمانا) مع الناس، فعلى الاقل ترى أين الرقابة والحماية للمواطن المستهلك ؟!
ان هذه الأساليب التي تتبع في بلادنا بطريقة تبعث احيانا على الاشمئزاز، حيث أن الدولة تعد الناس وتمنيهم وأكثر من ذلك "تبيع" عليهم الخبر إعلامياً وسياسياً في معظم الاحيان، لاسيما قرب اجراء انتخابات ما، او تشكيل حكومة، او حتى عندما تكون هناك مماحكات برلمانية او صراعات سياسية ( وقد رأينا ذلك اكثر من مرة) حيث يجهد كل طرف فيها الى كسب الشارع، او بعبارة اخرى وضع المواطن في "جيبه" الكبير، فيما جيب هذا المواطن "صفر" الرصيد، إن لم يكن مثقوبا اصلا !. ومهما يكن فإن هذا الأسلوب في التعاطي مع الناس يشكل في احيان كثيرة حالة "استعلائية وفوقية" تسهم في اذلال المواطن وهدر كرامته وحقوقه، وهي لا تضر بصورة الناس والمسؤول فقط وإنما بصورة الوطن. إن المشكلة تكمن في نمط التفكير والنظرة لهذا المواطن الذي ينبغي أن يُكرّم ويُعزّز من دون أن (يَسأل) بل و(يتسول) الدولة !، حتى لا يراق ماء وجهه على ساحة ذل السؤال ومع أنه يفعل ذلك إلا أنه بدلاً من أن يتم حفظ ما تبقى له من كرامة فإن الأمر يتم بطريقة فيها "مهانة" وإجحاف كبير.
على صعيد آخر فإن قضية الغلاء وواجب التصدي لها من قبل الحكومة والبرلمان، ينبغي أن لا تنفصل عن المشكلة الحقيقية في بلادنا وهي الفقر الذي يعصف بطبقة واسعة جدا من الناس الذين يعانون بشكل يومي على أكثر من صعيد، نتيجة لعدم وجود نظام عادل لتوزيع الثروة بشكل يكفل الحياة الحرة والكريمة لعامة الناس، وهو ما يستدعي وضع الحلول والمعالجات بشكل جاد ومتسارع من أجل الارتقاء بالناس للوضع الطبيعي على الأقل حتى لا تزداد الأمور سوءاً وتعقيداً، وهذا ما على الحكومة الجديدة أن تفكر فيه وتشغل نفسها به بدلاً من صرف الجهود في قضايا ثانوية وغير جادة من خلال الإثارات الإعلامية التلميعية التي تزيد من حالات زعزعة ثقة المواطن بالدولة والمسؤول.
ومع التأكيد على أن قضية كهذه بما تتسم به من بعد شعبي وانساني كبير لا تحتمل المتاجرة بها أو محاولة التكسب السياسي من ورائها، الا أن من واجب ومسؤولية النواب، والحكومة، مراعاة مصلحة المواطن والعمل على اتخاذ اجراءات فاعلة لمواجهة ظاهرة الغلاء، وعدم السماح لفاسدي الضمائراستغلال ذريعة ( الغلاء العالمية) لمحاصرة المواطن البسيط وامتصاص جيوبه. فالغلاء امر واقع يحاصر المستهلكين، ويطحن دخل المواطن العادي بل ونفسيته ايضا و بالكاد يتحملها ، وبات يشمل كل شيء بدءا من السلع الغذائية الى الانشائية الى كل المتطلبات اليومية واحتياجات اي عائلة بالحد الادنى،.ما يدعو بالدرجة الاولى (كما هو مفترض) تحركا من النواب نحو المطالبة بتطبيق قانون حماية المستهلك وضبط الاسعار، ومراعاة مصلحة المستهلك كوضع نسبة معينة كحد اقصى لهامش الربح ، وتفعيل عمل مفتشي لجان رقابية ، فضلا عن السعي لاستصدار تشريعات تعالج هذه الظاهرة، لاسيما وأن المؤشرات ومن خلال تصريحات الكثير من المسؤولين تتغنى منذ فترة بقرب تحول اقتصاد البلد الى نظام السوق، و(الخصخصة ) وهو بالطبع مايضغط البنك الدولي وصندوق النقد وامثالهما على العراق الى تطبيقه. وفي ظل هكذا اوضاع وتخبط اقتصادي ومعدلات فقر وغلاء، فأن لنا ان نتصور كيف سيكون الحال للمواطن في حال طبقت (الخصخصة) الموعودة، من دون دراسة ودراية وتحسب للنتائج، ومن دون اتباع استراتيجية حقيقية فاعلة لتوفير الامن الغذائي والاقتصادي بوجه عام، وهو مالايتيح المجال هنا للحديث عنه، وقد نشير اليه في وقت لاحق انشاء الله.
إن غلاء الأسعار الذي بات يشمل كل شيء ، والارتفاع في معدل التضخم، صحيح انها قضية عالمية ولكن وقعها على المواطن في بلادنا أشد وطأً وثقلاً، نتيجة للسياسات الخاطئة على مدى سنين ، بل ومنذ عقود، والتي خلفت هذه التراكمات من أزمات الفقر ، والسكن، والبطالة، والطبقية، والفساد المالي والإداري، وغيرها، وإذا ما تم التعاطي مع مسألة الغلاء كقضية منفصلة بعيداً عن القضية المحورية وهي الفقر ، فإن هذا سوف يكرس النهج الخاطئ في التعاطي مع الأمور التي أوصلت المواطن "العادي او البسيط" حسب مايتم وصفه في الاعلام والسياسة!، إلى أن يفرح فرحاً عارماً إلى درجة أن الدنيا لا تسعه في لحظة حصوله على "منّة" من الدولة ، كانت تمسى "مكرمة" وباتت تسمّى اليوم "منحة" !؟، او قرضاً اسكانياً مثلا، وكأنها فرصة العمر التي ينتظرها وهي كذلك بالفعل مع العلم أن القرض المالي لا يمكنه حتى من شراء قطعة أرض ينصب فيها خيمة فضلاً عن أن يبني بيتاً أو يشتريه.
وختاما فإن ما نتمناه حقاً أن تؤدي هذه القضية وهي "الغلاء" إلى فتح قضية أهم وهي "غلاوة" المواطن عن حق وحقيق بعيداً عن الشعارات والمزايدات، ومن يدري فرب ضارة نافعة.
|
|