قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
مواجهة الازمات برؤية قرآنية - 1-
الابتلاء مختبر قوة النفس والايمان بالله
*السيد سجّاد المدرسي
نعيش اليوم في عالم مليء بالمشاكل والازمات على أكثر من صعيد، وهذه الازمات تنعكس على الانسان في حياته، سواء أ كانت المشاكل من كوارث طبيعية ام من صنع الانسان نفسه، بل وحتى القسم من الناس الذين يعيشون النعيم والرفاهية، فهم ايضاً يعيشون المشاكل والازمات من نوع آخر، لكن العبرة في التعامل مع هذه الازمات، فالناس عادةً لايتعاملون مع الازمات بطريقة واحدة، فمنهم من يتقبلها بصدر رحب لينطلق من الخسارة نحو النجاح، ومنهم من يتقبلها مذعناً فلا يحرك ساكناً، ومنهم من ينهار امام الازمة فتراه يختار وسائل هابطة المستوى ليهرب من واقع الهزيمة التي يعيشها، وهو ما نلاحظه في بعض مجتمعاتنا، حيث يقضي البعض ساعات طوال أمام شاشة التلفاز لمتابعة القنوات الفضائية بما فيها من مشاهد تنقل المشاهد من محيطه المحافظ والمتديّن الى محيط آخر لا حدود له ولا قيود، ربما يكون مثل الغابة، تفعل الحيوانات فيها ما تشاء! وعندها ربما يشعر بنوع من النشوة وتغيير الجو!! هذا الى جانب وسائل اخرى مثل مواقع اللهو على الانترنت او العبث بالهاتف المحمول وما أشبه ذلك.
لكن هل جرّب أحد حلول أخرى غير ذلك تمكّن الانسان من مواجهة مشاكل وازمات الحياة؟
ان من يطالع القرآن الكريم بشكل متأنّي يجد انه يضم دروساً عظيمة من تجارب تاريخية لشعوب وأمم عاشت أزمات مماثلة في الجوهر وليس في المظهر، على سبيل المثال لا الحصر، أزمة الغذاء في العالم، وقد تحول اليوم الى هاجس أمني كبير، لكن القرآن الكريم بين أيدينا يقدم لنا الطريق والمنهج الذي يجعلنا لان نخسر المياه والغذاء وكل نعم الأرض.
وقبل الدخول في هذا الموضوع لابد من التمهيد بأمرين: الأول: معرفة رؤية الاسلام تجاه الحياة، والثاني اسباب الازمات في الحياة.
أولاً: رؤية الاسلام تجاه الحياة..
ان الدنيا هي الموطن الاخير لاختبار البشر، وهي قاعة الامتحان، وهي محطة انطلاق اما الى الجنة او الى النار. ومن هذه القاعدة لابد ان نؤسس التالي:
1- ليست الحياة للراحة، وان من بنى بنيانه على غير هذا الاساس فانما يبني بناءه على جرف هاو، كلما ارتفعت طوابقه اشتد به خطر السقوط.
2- لا فترة زمنية محددة للاختبار والامتحان، فربما تكون قصيرة، فلا ينبغي الاغترار بها، لأن ذلك هو بداية السقوط، وقد جاء في الحديث القدسي عن الله تعالى: (وضعت الراحة في الجنة والناس يطلبونها في الدنيا فلا يجدونه)، وهكذا نجد ان من يبحث عن السعادة المطلقة عبر الحصول على الماديات فانه على خطأ، يقول تعالى معاتباً من تثاقل من الجهاد في سبيله هروباً من المشاكل: "أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل". وعليه كان لزاماً على من يريد تجاوز الازمات ان يصحح رؤيته تجاه الحياة وفق الرؤية القرآنية: يقول تعالى : "وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور".
ثانياً: اسباب الازمات في الحياة الدنيا..
حينما يولد الانسان يولد وله بعدان: بعد الخير وبعد الشر، كما يقول تعالى: "انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه وجعلناه سميعاً بصيراً* انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفوراً"، وبما ان الانسان ليس بمعصوم فان رصيده في العثرات والزلات يزداد يوماً بعد آخر، وتزداد اخطاؤه الصغيرة منها والكبيرة والتي تشكل بدورها غطاءً يحجب الحقائق عن القلب، وهنا يقع الابتلاء الإلهي للانسان ليزيح هذا الحجاب عن نفسه وقلبه. علماً ان المصائب والويلات في الحياة دائماً يكون الانسان هو السبب في ظهورها. يقول تعالى: "وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ". فالمصيبة والابتلاء والفتنة، كلها لصالح الانسان ان استطاع الاستفادة منها واستيعابها، وتكون بضرره ان فشل في الابتلاء.
ومن جهة اخرى يمكن ان يكون الابتلاء وسيلة لرفع المستوى المعنوي للمؤمن، فكلما كان اقرب الى الله تعالى ازدادت ابتلاءاته واختباراته، اما حكمة الابتلاء فهي لرجوع الانسان الى ذاته ومعرفة ضعفه في مقابل الرب القوي العزيز، فيعزز الارتباط بحبله المتين، و يستمر في التقرب اليه.
خطوات على ضوء القرآن الكريم
امامنا عدة خطوات يمكنها ان تجعل من المصيبة نجاحاً وفلاحا ً:
اولاً: الرجوع الى الله تعالى، فهو الذي امتحننا بالمصيبة وهو الوحيد القادر على رفعها وحلها.
حين ارادوا القاء النبي ابراهيم (ع) بالمنجنيق نحو النيران المستعرة والكبيرة، جاءته الملائكة واحداً تلو الآخر كلٌ يعرض عليه ان يخدمه لكنه يأبى ذلك لان حاجته عند الله عزوجل، حتى ان جبرئيل (ع) قال له: هلا سألته. فقال عليه السلام: (حسبي من سؤالي علمه بحالي).
والايمان بالله والتوكل عليه سبب في تهوين المصيبة، يقول تعالى: "ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ"، فالمؤمن يعرف بان المصيبة هي بسبب اعماله، لذا عليه تصحيح اخطاءه من جهة وقبل ذلك عليه الرجوع الى الله عزوجل.
ثانياً: التسليم لامر الله تعالى، يقول ربنا تعالى: "الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون"، وقد روي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: (إِنِّي جَعَلْتُ الدُّنْيَا بَيْنَ عِبَادِي قَرْضاً فَمَنْ أَقْرَضَنِي مِنْهَا قَرْضاً أَعْطَيْتُهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْراً إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَ مَا شِئْتُ مِنْ ذَلِكَ وَ مَنْ لَمْ يُقْرِضْنِي مِنْهَا قَرْضاً فَأَخَذْتُ مِنْهُ شَيْئاً قَسْراً فَصَبَرَ أَعْطَيْتُهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ لَوْ أَعْطَيْتُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ مَلَائِكَتِي لَرَضُوا بِهَا مِنِّي... قَالَ ثُمَّ تَلَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: "الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ"، فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ، وَ "رَحْمَةٌ" اثْنَتَانِ وَ "أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" ثَلَاثٌ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: هَذَا لِمَنْ أَخَذَ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً قَسْراً.
ثالثاً: عدم كفران النعمة، فان الله قد منّ علينا بملايين النعم التي لا ولن نستطيع احصائها، وقد يحصل هذا التجاوز عندما نقع في مشكلة مالية او تجارية، او نتعرض لمصاب اجتماعي او ما أشبه ذلك، فننسى ونغفل نعم الله علينا وتفضله حتى بوجودنا على قيد الحياة ونحن نندب ونشكو آثار المصيبة، عَنْ الامام أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : (إِذَا صَعِدَ مَلَكَا الْعَبْدِ الْمَرِيضِ إِلَى السَّمَاءِ عِنْدَ كُلِّ مَسَاءٍ يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى مَا ذَا كَتَبْتُمَا لِعَبْدِي فِي مَرَضِهِ فَيَقُولَانِ الشِّكَايَةَ فَيَقُولُ مَا أَنْصَفْتُ عَبْدِي إِنْ حَبَسْتُهُ فِي حَبْسٍ مِنْ حَبْسِي ثُمَّ أَمْنَعُهُ الشِّكَايَةَ فَيَقُولُ اكْتُبَا لِعَبْدِي مِثْلَ مَا كُنْتُمَا تَكْتُبَانِ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ فِي صِحَّتِهِ وَ لَا تَكْتُبَا عَلَيْهِ سَيِّئَةً حَتَّى أُطْلِقَهُ مِنْ حَبْسِي فَإِنَّهُ فِي حَبْسٍ مِنْ حَبْسِي).
كان النبي موسى (ع) بأمس الحاجة الى طعام يسد رمقه، فلم يكن قد ذاق طعم الطعام الطبيعي طيلة ثمانية ليالي، لكنه لم يكفر بالنعم الاخرى التي انعمها الله عليه، بل وسأل ربه الطعام بشكره له قائلاً: "رب اني لما انزلت الي من خير فقير". كما ينقل التاريخ لنا كيف ان زوجة النبي ايوب التي كانت اختاً للنبي يوسف عليهما السلام، حيث الملك والعز، كيف تبتلى مع زوجها بذلك الابتلاء الصعب، لكنهما يتجاوزان المصيبة بالصبر والشكر فقد روي انه لم يبق له مال و لا ولد و لا صديق و لا أحد يقربه غير (رحمة) صبرت معه تأتيه بطعام و تحمد الله تعالى معه.
رابعاً: النظرة الايجابية تجاه المصيبة والمشكلة، والانطلاق من المشاكل والازمات نحو السمو بالدرجات العليا عند الله عزوجل، ومن دروس ذلك مواقف العقيلة زينب بنت امير المؤمنين عليهما السلام، عندماوقفت ذلك الموقف البطولي والتاريخي أمام طاغية الكوفة وطاغية الشام آنذاك، وفضحتهما وردت على تخرصاتهما وهي مسبيّة وفي حالة يرثى لها، فقد قال لها ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟! اجابته وقد القمته الحجر: (ما رأيت الا جميلا). فهي بذلك حولت المصيبة العظيمة الى وثبة و وقفة شجاعة لمواجهة الانحراف ومواصلة المسيرة التي استشهد من اجلها أخوها الامام الحسين عليهما السلام، وهو درس لنا ولكل من يتعرض في حياته الى ازمات ومشاكل مهما كانت.