قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
السبيل نحو المعرفة الربانية – القسم الأخير
التفكّر طريق المعرفة
* السيد صادق الحسيني
من اهم القدرات المودعة في العقل؛ قدرة الفكر و التفكّر، وهو اعمال العقل في المعلوم للوصول الى معرفة المجهول، فاذا كان النظر والسمع يلتقطان علامات الحقيقة وآياتها واثارها، واذا كان التذكر يستثير دفائن العقل ويبلور ركائز المعرفة في القلب، وبالتالي يفتح خزائن المعرفة الفطرية للانتفاع، فان التفكر يقوم بتقليب المعلومات وعرضها على المعارف الفطرية، وتكميل بعضها ببعض. وبالتالي يبقى التفكر ملازماً لجميع مراحل تحصيل المعرفة عند البشر. وحينما يستوفي الانسان شروط التفكير سيصل الى المعرفة الربانية ذلك لأن الله اودعها في العقل و ما على الانسان سوى جلي عقله من الدفائن حتى يصل الى نور العقل.
فبالتفكر يصل الانسان الى معرفة الرب عزّ وجل حيث يقول ربنّا: " أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللـه السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى" (الروم /8). فحينما يجد الانسان الدقة اللامتناهية التي خلقت بها الذرة الصغيرة بل و المجرة الكبيرة و من التشابه العجيب بين هذا وذاك، يتوصل بقليل من التفكر الى وحدانية الخالق العظيم.
و بالتفكير ايضاً يكون معرفة صدق الانبياء عليهم السلام قال تعالى: " اَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِين" (الاعراف /184). فمن يأتي بالمعجزات و يدعو الناس الى النجاة دون أن يسأل بذلك أجراً، فضلاً عن كونه معروف عندهم بالصدق والامانة، لابد وان يحمل دلائل صدقه وعلاقته بالله تعالى.
و المؤمنون يصلون بتفكرهم في المجهول الى ما هو معلوم، و معرفة عدم عبثية الخلق، قال تعالى: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار" (آل عمران /-191).
ان فكرهم وذكرهم قاداهم الى انّ لهذا الخلق العظيم هدفاً اعظم يخاف ويرجى , نار يخاف أن يكوى بها جبابهه و ظهوره و جنة يرجى نعيمها المقيم ويدعون من ربهم أن يقيهم شر ذلك اليوم.
و بهذا يدرك المؤمنون صدق المعاد و بأن الدنيا زائلة فانية، روي عن الحسن الصيقل قال : سألت ابا عبد الله الصادق عليه السلام عما يروي الناس ان (تفكر ساعة خير من قيام ليلة)، قلت : كيف يتفكر ؟ قال : يمر بالخربة او بالدار فيقول : اين ساكنوك ؟ اين بانوك ؟ مالك لا تتكلمين؟ (1)
محاور التفكر
اثارة العقل واستنباط ركائزه الفطرية تتم بالامثلة الواضحة والقصص الحق، تلك الامثلة والقصص التي تتصل بغرائز و نوازع النفس البشرية مثل سكون الازواج الى بعضهم مدعاة الى التفكر قال تعالى: "وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم /21). فنظام الحياة الاجتماعية وما فيهما من تدبير وان اللـه قد خلق للانسان زوجا من نفسه ليسكن اليها، وربطهما برباط الحب والحنان والحاجة المتقابلة، لهو محور لتفكّر المؤمنين. وكذلك الحال التغيرات الجارية على الطبيعة مثل هطول الامطار ونمو النباتات، فهي مدعاة للتفكر قال الله تعالى : "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاَنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَاَن لَمْ تَغْنَ بِالاَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (يونس /24).
انها لقطة صغيرة تعكس حقيقة كبيرة، انها من بيدر تدل على حقيقته، أرأيت الغيث حين ينزل من السماء فيسقي الارض التي تحمل الحب، فتنفلق الحبّة وتتحول الى شجرة مثمرة او سنابل تحمل الحبوب الغنية، وتكون للناس بمنزلة عامل الحياة والبقاء، ثم لا تلبث هذه الارض ان تحصدها الرياح الهوجاء فتعود قاعاً صفصفاً كما كانت من دون زرع. انها دورة الحياة، وتصدق على الانسان والحيوان، حيث كل يوم يموت انسان فيما يولد انسان آخر.
وكذلك الحوادث الهامة في التاريخ كقصة عاد وثمود كلها تُعد محاوراً للتفكّر. قال الامام الصادق (عليه السلام): اعتبروا بما مضى من الدنيا، هل أبقت على احد... ؟ و هل فيها باق من الشريف والوضيع والغني والفقير والولي والعدو ؟ فكذلك ما لم يأت منها بما مضى اشبه من المـاء بالمـاء. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كفى بالموت واعظا وبالعقل دليـلا، وبالتقوى زادا، وبالعبادة شغلا، وبالله مؤنساً وبالقرآن بياناً.