الدعاء في القرآن الكريم
"آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" .. حُسنى الدارين
|
*صادق الحسيني
يلتبس الناس غالباً في إيجاد العلاقة الصحيحة التي تربطهم بالدنيا و المنهج السليم في العيش فيها.. فلا يكاد الواحد منهم أن يخرج من الافراط بالخوض في غمار الحياة بما فيها من سييء و رذيل حتى يدخل في التفريط بالعزلة عن الناس و انتهاج الرهبانية سلوكاً ومنهجاً له .
و بين هذا وذاك يكتشف الرسالي و انطلاقاً من آيات الذكر الحكيم، الخط المتوازن بين الحالتين، فهم يمثلون الإنموذج الذي يتمسك بالخط الإسلامي الوسط الذي يجمع بين الدنيا و الآخرة، فهو يعد الدنيا حقلاً من حقول العمل التي أراد اللّه للإنسان أن يعيش فيها حياة طيبة، و(الدنيا مزرعة الاخرة)، يتناول فيها الطيبات و يُقبل فيها على ما أحله اللّه له من شهوات و ملذات، ثم يرى أن الآخرة هي نهاية المطاف، فهي دار المصير الذي يجد فيه كل إنسان دار خلوده في الجنة أو في النار.. ولذلك يدعون ربهم قائلين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (سورة البقرة /201). فهم يمتلكون الدنيا لأجل الآخرة، فهمّ المؤمن هو الاخرة و طريق ذلك العيش السليم في الدنيا.
من هنا كان دعاء المؤمنين أن يأتيهم الله بالحسنة و النعم الوافرة في الدنيا قبل الآخرة فهم بذلك يطلبون العيش الهنيئ و الزوجة الصالحة و الرزق الواسع ومن ثم في الاخرة الجنة والرضوان و الحور و التيجان حيث لا رأت عين انس ولا جان ليجمعوا بين هناء الدنيا و الآخرة .
و لا ضير بالجمع بينهما فهناك اناس يعيشون في الدنيا باحسن وجه و هم في الآخرة كذلك.. فرحمة الله اللامتناهية تمشلهم في الدارين، وفي الرواية أنّ النبي (ص) سأل ذات يوم عن رجل من اصحابه فقالوا: يا رسول الله انه قد صار في البلاء كهيئة الفرخ لا ريش عليه، فأتاه صلى الله عليه وآله، فاذا هو كهيئة الفرخ لا ريش عليه من شدة البلاء فقال له: هل كنت تدعو في صحتك ؟ قال نعم كنت أقول: يا رب أيما عقوبة أنت معاقبي بها في الآخرة فجعلها لي في الدنيا. فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم ألا قلت: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار"، فقال فكأنما نشط من عقال و قام صحيحا و خرج معنا..
وفي المقابل هناك أناس يحددون نظرهم في الدنيا فهم يصابون بقصر النظر، و الذاتية، ويقول قائلهم: ما دام العمل للدنيا و لا نعرف هل نحن غدا موجودون أم لا ؟ فدعنا نأخذ نصيبنا اليوم، و بذلك يستنفذون طاقاتهم في الحال دون النظر في المستقبل.
و ما دام الفرد يعمل للدنيا، و يعمل لذاته و لا يقرب الناس اليه، فانه انما يقضي على حضارته، فما عاشت امة انتشرت فيها الذاتية والانانية و قصر النظر، بينما من صحت معرفته بالدنيا و تقلب اهلها انصرفت عن العالم الفاني همته، و عمل من أجل الاخرة و بذلك يكون امامه أفق بعيد يتطلع لتحقيقه، انه يفكر في رحمة اللّه الواسعة، فهو لا يريد مكاسب عاجلة، ثم انه يعمل للجميع لان ذلك طريقه الى اللّه، و هكذا يكون العمل للآخرة طريقا الى حضارة الامة ايضاً، فدعاءه لا يقتصر على الدنيا انما يقول (وفي الاخرة حسنة) و المصداق الجلي للحسنة في الآخرة هو الدعاء بأن يجنبهم الله من العذاب لأن لا خير بعده النار، فكل خيرات الدنيا هي كالعدم لو أعقبها لحظات من العذاب في النار.
فمجرد تصور العذابات التي اعدها الله للظالمين في النار و قراءة المشاهد التي يصورها الله في القرآن بما يجري للانسان هناك كقوله تعالى "يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"، وقوله تعالى: "كلما خبت زدناهم سعيرا" هذه الايات وغيرها تهيب بالانسان أن يسارع الى الدعاء ليقيه الله شر اعماله السيئة التي تتحول الى النار يوم القيامة، فآكل مال اليتيم انما يأكل ناراً لا يشعر بها في الدنيا وكذا قاتل النفس المحترمة و المنجر وراء شهواته و... الخ، كل ذلك يتحول بذاته الى العذاب فدعاء المؤمنين بطلب الخلاص من النار في الاخرة هو ايضاً دعاء للاستقامة في الدنيا و للاستزادة بالاعمال الصالحة التي تكون حسنة يوم القيامة
|
|