زينب...! كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين وأهل بيتك...؟!
|
*إيمان عبد الامير
لكل إنسان قَدَرَهُ من السعادة، كما له حصته من المعاناة، لكن التبصر في الأمور وجلاء حقائقها من خط المعاناة هو أمر يقتضي ما يشبه النبوءة التي تختلف وتتباين من نفس لأخرى حسب عمق يقينها. بالطبع لن تفلتنا الحياة من خوض المعارك وتوابعها ولا من نظرات التشفّي والتلظّي حين تنهار علينا الأبنية فجأة وتضعنا الأقدار بدون مقدمات كما رفعتنا سابقا. فجميعنا تقلبه الأقدار بمصائب تهده أحيانا، لتمايزه وترفع من قدره أو لتختبره، والمصائب إن أتت فهي لا تجيئنا فرادى. ولن يبدو عجبا أن يطال الحُر شماتة الأعداء، ليس لأن خللا ألمّ به، بل لأن هذه حال الدنيا لا تصفو لأحد.
لو كانت الدنيا تدوم لأهلها
لكان رسول الله فيها مخلّد
فالحياة تتلون من تلقاء نفسها، لذا ترينا تقلبات أهلها وغدرهم، وإن كان التشفي والتلظي له وقع مؤلم في النفس، فهو مع الذين لا إيمان لهم يبدو أمرا محبطا للغاية، فلا مرتكز تعتمده إنكساراتهم ولا متكأ يخفف عنهم مرارتها، لكنما هو الإيمان وحده ما يعزز قوة المرء ويقوي عوده و يصوغ النفوس بشخصيات قوية تضيئ فصول الحياة. وهذا يحصل مع أولئك اللذين يتعلقون بالسماء ويؤمنون بتقاديرها، ويسجلون في صفحات التاريخ قفزات تمكنهم من تفعيل منطلق الإيمان والصبر، فيغيب الإحباط عن أرواحهم وسط الشماتات المتقاذفة، ويخبو الحزن عنهم وسط تضخم التعلق بالرسالة ومسارها، وتمتلئ نفوسهم بالثقة والعزيمة لأنهم في جنب الله.
ولتجربة السيدة زينب عليها السلام في معركة كربلاء ملحمة حقيقية تستعرض هذا المعنى، حيث كانت تمثل بُنيَة سليمة راحت تتنفس وتندرج في حضن الإيمان بالقضية رغم المعاناة التي عاشتها وهي تؤدي دورها البطولي العظيم، فبعض المعاناة تمايز الناس وبعضها تقوي عزائمهم بينما، الآخر يجعلهم يقدمون على مجابهتها بجسارة أو ينهزموا منها، فلا أحد يعرف ما تجره الأقدار إليها.
ثم ان الامام الحسين عليه السلام كان في كامل الإقتناع أنه يخط الحقيقة، وكانت زينب على أثره تخطو خطواتها بثبات و رضى. تعرضت لما هو أكبر من الاحتمال العادي لرجال أشداء، فضلا عن كونها ربيبة عز وفخر ثم تحملها الأيام لمجلس أقل ما يقال فيه أنه مجلس فسق وفجور، ولأشخاص يملأهم الحقد ويغلفهم الكره بالسواد، ويجعلها تتلقى سهام العين واللسان من هنا وهناك، ويشمت بها الشامت.
كل المصائب قد تمر على الفتى
فتهونُ غير شماتة الأعداء
لكنها فوق كل ذلك كان جوابها مفحماً صاعقاً بوجه طاغية الكوفة (ابن زياد) الذي سألها تهكماً في مجلسه: كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين وأهل بيتك....؟! فقالت: ما رأيت إلا جميلا... هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم, وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يا بن مرجانة...!
كان ابن مرجانة يتصور انه المنتصر القهّار بعد انتهاء معركة كربلاء وتصفية الامام الحسين واهل وبينه وصحبه جسدياً، لذا كان يغمره الزهو والخيلاء في مجلسه بالكوفة، وإذا بصوت رعديد يزمجر فيهزّ اركان (قصر الامارة) ثم يهزّ الكرسي الذي يجلس عليه. هذه الخطوة ليست سهلة بالمرة، لاسيما اذا عرفنا من خلال المطالعة والبحث في الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية المرافقة لحادث السبي في الكوفة، حتى ان اصحاب المقاتل يذكرون ان إحدى الكوفيات أشرفت من منزلها وسألت: (من أي الأسارى أنتم...)؟!! وهذا يدل على عمق الجهل والتضليل والبعد عن الحقائق في المجتمع الاسلامي آنذاك، بمعنى ان الرجال الذين تركوا نسائهم وعوائلهم في الكوفة والتحقوا بجيش ابن سعد، إنما ذهبوا لحرب أناس خوارج او كفار او مرتدين. وهذا بحد ذاته يجسد لنا عمق الجرح في نفس عقيلة بني هاشم وسليلة رسول الله صلى الله عليه وآله. حقاً ان شماتة العدو أشد إيلاماً على الحر من فقد عزيز وحتى من السبي من بعده ايضاً.
لكن هذه زينب بنت علي بن أبي طالب عليهما السلام...
هذه المعلمة لدرس الصبر والتجلد والتتلمذ على طاعة الله والرضا بقضائه. هي من أولئك الأشخاص الذين نذروا أرواحهم لله، شعلة دافقة من الفكر والروح ترتقي لتحقيق الإنسانية وحفظ الحقيقة، تمثل أنموذجاً للطاعة والتسليم. لقد وصلت زينب لذاتها وهي تستعرض تاريخها وأهلها، في حين وجدت المعركة مجزرة تجرها لمجلس فاسق، ومن ثم لخربة تضيق بهم، ويكاد يسقط سقفها تتهاوى أشرعتها عليهم، وهي التي يعلمها الحسين كيف تتصرف وكيف تجابه المحن والمنغصات، لكن الدسائس والنيل من عزة المرء أمر لا يطيقه كل حر، ولا يصبر عليه أي أحد، ولو لم يكن الإيمان يصلب عودها لما كان لمخلوق أن يحتمل ما تحتمل.
لقد وصلت المعاناة لمرحلة يضيق معها الكلام وتغص الدمعة في محجرها. تلك هي مجالات النفس الإيمانية حين تتمحض لله تعالى وتطلب منه العفو والعافية، تتعلم كيفية قراءة الأحداث بجدارة حتى تخدم الموقف. فما كل صراخ يُسمع حقيقة، وما كل ما يقال يُصدق، وما كل شماتة تنال من صاحبها، وما كل هزيمة انكسار، ولا كل فوز نصر لصاحبه، ففي كربلاء مشاهد تجتر ملحمة النفس الإنسانية. وللحقيقة فإن المعاناة الطويلة انتهت بانفجار من نوع آخر مزق اكاذيب العدو فارتطم بهم موقفها العظيم فهشم نصرهم المزعوم، فخلفت ثروات ضخمة تعمر النفس وتخلد القيم والمبادئ.
|
|