قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

القرآن الكريم ينير العقل نحو التقدم العلمي
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
الذي يتبين من خلال مفاهيم الذكر الحكيم والاحاديث النبوية الشريفة وأقوال الأئمة عليهم السلام ؛ أن الانسان إذا أراد ان يكتشف الحقائق وان يتجنب الجهل والضلال فليس عليه إلا ان يعرف العقل وجنوده والجهل وجنوده، إذ كلما أضاء العقل نفسه لنفسه، وتنبّه العلـم بذاته لذاته، وتوجه الانسان الى قدرته على كشف الاشياء ومعرفتها، كلما ازداد معرفة بالحقائق، وبالتالي ازداد هدى ويقينا.
ثم ما هي علاقة الصفات الحميدة بما نعهده من العلم والعقل، وبما نعهده من المعرفة والثقافة ؟ بل لماذا يعتبر التكبر مثلا جندياً من جنود الجهل، ولماذا (التواضع رأس العلم ورأس العقل)؟ ولماذا الحلم من العقل والعلم، والتسرع والغضب من الجهل والجهالة ؟ بل لماذا يربط الحديث الشريف السالف الذكر عن الامام الصادق عليه السلام بين صفات الانسان كصفة الكرم والسخاء والتوءدة والعفاف والحياء وبين العلم والعقل والمعرفة والثقافة وما أشبه ذلك ؟
القرآن الكريم والعقل صنوان
هناك حقيقة وجدانية معروفة بصغرياتها ومفرداتها، لكنها مجهولة باطارها العام. وبتعبير آخر ؛ إن مفردات وجزئيات هذه الحقيقة معروفة لدى الانسان، فإذا ارتبطت هذه المفردات مع بعضها شكلت إطاراً عاماً او هيكلاً شاملاً للفلسفة الاسلامية ؛ وفي حقل العلم والوحي بالذات.
فالانسان ولكي يصل الى سموه الروحي والتكامل المعنوي، والى تقدمه الحضاري المادي الذي يتطلع إليه؛ لابد وأنه سيواجه في طريقه الكثير من العقبات. وهو حين يعجز عن تجاوز هذه العقبات، بل والسيطرة عليها، لا يمكنه ان يصل الى ذلك السمو وذلك التقدم، سواء كان ذلك في حقل المعنويات ام في حقل الحضارة المادية. وهنا تتجلى الرابطة العميقة والوثيقة بين القرآن الحكيم والعقل، وبأنهما صنوان لا يفترقان، بل هما يتفقان معا على إعطاء الانسان زخماً إرادياً هائلاً لتجاوز تلكم العقبات والسيطرة عليها، بل وليشق الانسان طريقه قدماً الى قمة الكمال النفسي والروحي من جهة، والى قمة التقدم الحضاري المادي من جهة ثانية.
ثم إن قدرة القرآن الحكيم وقدرة العقل على اجتياز تلك العقبات الكأداء وإزالتها من مسيرة الانسان، انما هي الدليل الواضح والحجة البينة والبرهان القاطع على مدى صحة القرآن من جهة، وعلى مدى سلامة العقل من جهة أخرى. وبتعبير آخر، حينما يكون العقل دليلنا الى القرآن ويكون القرآن هو الآخر دليلنا الى العقل ؛ فإن العقل يهدينا الى أن القرآن من الله سبحانه وتعالى، والقرآن يذكرنا بالعقل فيبلوره في أنفسنا، بل يبلور الفطرة في أنفسنا. فهما يلتقيان عند مصب واحد ويفجران طاقة الانسان.
لكن ماهي العقبات التي تعترض طريقنا، وكيف يعالج الوحي هذه العقبات ويعطينا القدرة على تجاوزها ؟
العقبة الأولى : التأطر بحدود الدنيا
من الجهل بمكان ان يحدد الانسان تفكره ضمن حدود هذه الدنيا الفانية، إذ ان هذا الاطار الضيق من التفكر لا ريب انه يحصر الانسان في زاوية لا يبصر منها إلا ما يتصور أنه يحقق له البقاء دون أدنى نظرة مستقبلية، فينقاد شاء ام أبى الى متاهات لا نتيجة لها إلاّ السقوط الى حضيض حب الحياة العاجلة، وبالتالي السقوط والتسافل، ولهذا جاء في الحديث الشريف: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)، فالحب يعمي ويصم ومن ثم يتسبب في الكثير من التصرفات التي تجرد الانسان من انسانيته فلم يعد حينئذ أشـرف المخلوقات، ويعجز عندها من ان يدرك انه ما خلق ليحيا هذه السنين المعدودات القصار في عمر الزمن فحسب، ما خلق ليحيا هذه العاجلة فقط، ويعجز ان يفهم "فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الأَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ" (التوبة /38) بل هو أيضاً يغفل عن الآجلة ويعجز عن فهم معنى الخلود وان هناك حياة أخرى هي خير وابقى.
ثم ان الانسان حين تنحصر افكاره وتصرفاته في حدود آنية، وحين يتصور ان عصفورا في اليد خير من عشرة على الشجرة؛ انما تتنامى فيه عادة التقاعس والخمول والاستسلام الذي يفتُّ في عضده ويعيقه عن مواجهة المشكلات وبالتالي عن الوصول الى طموحاته المعنوية والمادية. وهذا امام المتقين علي عليه السلام يقول: (ولاينال العبد نعمة إلاّ بفراق أخرى).
ان العقل هو القادر على تجاوز العقبات، والقرآن الحكيم يزيد العقل نوراً عبر آياته الكريمة، التي تذكره بأنه ما خُلق عبثاً: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً" (المؤمنون /115 (، بل خُلق ليبقى، خُلق ليحيا: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ" (الانعام /32). ثم هو ينير الطريق امام الانسان ليرقى بتفكره بعيداً عن أفقه المحدود، وتدفعه للتحرر لينطلق بأفكاره وتوجهاته الى آفاق أسمى مما هو فيه من التقوقع والإستكانة؛ و دون ان تنكرعليه نصيبه من هذه الدنيا، بل تدعوه للفوز بحياة سامية عالية من خلال هذه الحياة الدنيا، "وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَخِرَةَ" (القصص /77). ويقول امير المؤمنين عليه السلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
العقبة الثانية : التكبر
حينما يعني التكبر التعالي على الآخرين، فانما يعني في نفس الوقت ان المتكبر يجهل نفسـه، ويجهل ذاته فلا يتبادر له من الآية الكريمة: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَاَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" (الانعام /98) ولا من الحديث الشريف: (كلكم لآدم وآدم من تراب) أي معنى.
ولا ريب ان للتكبر اسباباً وتصحبه نتائج أيضا. إذ لو عاد الإنسان لنفسه لوجد أنه ضعيف بدرجة كبيرة لن يستطيع معها أن يخرق الأرض التي يعيش عليها، ولن يستطيع ان يبلغ الجبال طولا مهما تطاول واستعلى على بني جنسه. غير أن الجهل بهذا المعنى، وقصور عقل المتكبر عن إدراكه هو الذي يدفعه للتظاهر بما ليس فيه فعلا، ومن ثم يعجز عن استقبال الحقائق فيلجأ الى الصلف والتعنت والمكابرة، فيركن الى التخلف والارتجاع والانتكاس. وهذه سمة المتخلفين الذين يعتزون بتخلفهم ويفتخرون بالمياه الآسنة العفنة التي يتخبطون فيها.
ومنار الطريق انما هو القرآن الحكيم، الذي يذكر بالعقل، وبأن الانسان مخلوق ضعيف لكنه شريف رفيع حين يعقل الحقائق ويدركها. يأتي القرآن الكريم لينتزع ما في الصدور من غل ويذكر الانسان بانه جزء من المجمتع الانساني وان عليه ما على الناس وله ما لهم، ويدعوه للتواضع "وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (لقمان /18).
العقبة الثالثة : الحسد
تتراكم عوامل عديدة في نفسية الانسان ثم تبدو جلية من خلال سلوكه وتصرفاته. وليس الحسد إلا ظاهرة بذيئة سببها الاول والرئيس هو الطمع، بل هو اليأس من رحمة الله الذي وسعت رحمته كل شيء. وحين ييأس الانسان من رحمة ربه يتهاوى في ظلمات الطمع الذي يجر وراءه حب الذات والحرص والغيرة والأثرة، ثم الانسياق الى الشرور والظلم والجور، وبالتالي الكفر بنعم الله سبحانه وتعالى.
وهل حب الذات إلاّ السخط وعدم الرضا بما وهبه الله تعالى للآخرين؟ وهل اليأس إلاّ التقاعس والخمول عن السعي وراء رحمة الله، وهل تعني الأثرة إلاّ الرغبة بالانفراد بالمنافع والاختصاص بها دون الآخرين، كما أن الظلم والجور ليس إلاّ غصب الآخرين آمالهم وأموالهم وليس إلاّ استلابهم حريتهم وتطلعاتهم؟
كل هذه العوامل والصفات حين تتجمع في ذات الانسان تغرس في نفسه الحسد ؛ والحسد شر إذا ساد الامة تفرقت وتمزقت، وراح كل فريق يسعى للإنفراد بما لدى سائر الفرقاء الآخرين والاستئثار به، وبالتالي يسود الامة الشحناء والبغضاء والاختلاف والتناحر، وتتلاشى صفات الخير وتضمحل الكمالات الروحية والمعنوية، وتنهدم الامكانات المادية تبعاً لها.
والقرآن الحكيم بآياته النورانية ينتزع الحسد من قلب الانسان ويذكر العقل بأن "الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّ اً" (مريم /76)، وأيضاً "إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً" (الاسراء /30). ثم هو يحث الانسان الى التوجه بالطلب من الله فحسب "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً" (طه / 124)، والى ترك الجمود والاستكانة: "وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى" (النجم /39).
العقبة الرابعة : اللاعلمية
وتندرج تحت عقبة اللاعلمية او اللاعقلانية ثلاث صفات: طول الأمل، والتمني، والتضنّي. وكل من هذه الصفات رذيلة بذاتها وتستتبعها صفات رذيلة أخرى.
اما طول الامل فانما يعني الفرار من الحقيقة الى الوهم. يعني الفرار من رحاب الواقع الى كهف الحلم، وهذه هي اللاعلمية. وحينما يعيش الانسان آمال الخلود في هذه الدينا الفانية، فانما يعيش أحلاما تتناقض مع الحقيقة والواقع. فالحقيقة تقول "كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ" (الانبياء /3 (، وهذه قوافل الموتى رسل الله للانسان تنذره بالرحيل الذي لابد منه. لكنها القلوب المريضة والعيون التي أصابتها الغشاوة لا تعقل هذه الحقيقة ولا تدركها.
وأما التمني، فيعني ان الانسان اذا أراد شيئاً ما، فلابد ان يقرن إرادته بالفعل. إذ من المعلوم ان الوصول الى الهدف لا يتحقق إلاّ بالسعي والعمل، وحين تتجرد الارادة عن الفعل تصبح تمنيا. وليس التمني إلاّ حالة من الخمول والتقاعس، وليس هو إلاّ الهروب عن الحقيقة. وبالتالي ليس التمني إلاّ اللاعلمية: "ومِنْهُمْ اُمِّيُّونَ لاَيَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلآَّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ" (البقرة /78).
ثم من يعيش حالة الوهم واللاعلمية لن يبقى متأخرا عن الركب فحسب، بل ويندفع الى الخلف والى الأسوأ والأردء، لانه ينتظر تغييرات وتحولات هائلة في هذا العالم دون ان يكلف نفسه السعي او ان يحرك ساكنا. وحين يحيا الانسان التخلف والانتكاس بدلاً من ان يعيش السمو والرقي والتقدم، فهو لايزداد إلاّ بعداً عن ربه كلما ازداد عمره، ولا يزداد قلبه إلاّ قساوة وبصره إلاّ غشاوة، وبالتالي لا يزداد إلاّ تيهاً وضلالة، فهو في نقصان دائم. والامام علي عليه السلام يقول: (من لم يكن في زيادة كان في نقصان؛ ومن كان في نقصان فالموت أولى به).
وأما التظنّي، فيعني إلقاء الكلام على عواهنه دون أدنى روية او تأمل ينبئ عن قصور في المعرفة والادراك. فحين ينطلق الانسان في كلامه واجاباته من الظن والخيال والحدس - وكلها تتناقض مع العلم - لا ريب ان إجاباته لن تصادف الحقيقة بحال، فلا تقع موقع القبول والتصديق من السامع. ثم إن الانسان حين ينجر للتظاهر بالمعرفة، انما يحاول التمويه والتغطية على عدم علمه بالامور فيستغني بظنونه وأوهامه وخيالاته عن العلم. وهذا ولاشك عقبة كأداء تقف امام الفرد فتعيقه عن التكامل.
بالقرآن والسنة تتفتح أبواب العلم
وأكبر العقبات التي تواجه الانسان هي الاسئلة الحائرة عند الانسان عن سر وجوده ؛ من أين أتى؟ والى اين يسير؟ ومن الذي جاء به؟ ولماذا الحياة؟ ولماذا الموت؟ ذلك الحجاب الاعظم والنهاية المخوفة، ثم ماذا بعد الموت؟ واذا كانت السعادة هي الهدف في الحياة فلماذا الشقاء ولماذا الظلم والطغيان والحروب والفساد ثم لماذا الاضطراب والقلق؟
اسئلة حائرة دفعت بكثير من بني البشر للانزواء والأنطواء بعيداً عن التقدم والانكفاء على انفسهم والهرب خارج اطار الحياة الفاعلة.
إن هذه هي مجمل العقبات التي تعترض طريق التكامل الروحي والتقدم المادي للانسان، والعقل هو القادر على تصفية هذه العقبات، والقرآن الحكيم يذكر الانسان بهذا العقل من جهة، ويقوم هو أيضاً بتصفية العقبات اذا ما صغى الانسان الى آياته وتلقفها بكل قلبه وجوانحه، فعندما يتلو الانسان القرآن متجرداً عن التعقيدات، و بخلوص يجد وكأن القرآن يحاكي فطرته ويناغي ذاته ويناجي قلبه، فيزيل عن بصره كل غشاوة بأنواره البهية الزاهية، ويروح الانسان يستلهم العلم والمعرفة من ثنايا أحكامه فيتضح له السبيل. وحينئذ يضع الانسان قدمه على الطريق القويم فيدرك ان الله سبحانه وتعالى خالق السماوات والارض، وانه جلت قدرته سخرها للانسان، وانه خلق حقاً ليعبد الله: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات /56)، وليتحسس طعم الحرية من خلال عبوديته لله الواحد الاحد ثم ليحضى برحمته، لان الله هو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء. وليدرك أيضاً بان العذاب الدنيوي ليس إلاّ دليل ظلم الانسان نفسه، "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" (الروم / 41).
ان كل تلك الاسئلة الحائرة عند الانسان يجيب عنها القرآن إجابات بسيطة بليغة واضحة، واذا ما اتصل الانسان بنوره المضيء فانه يتحرك بسرعة هائلة نحو طموحاته وتطلعاته في التكامل والسمو المعنوي والتقدم الحضاري ويجتاز كل العقبات التي تقف عائقا امام مسيرة حياته.
كذلك الاحاديث الشريفة حول العقل والعلم هي الأخرى عامل هداية وموعظة للانسان على طريق تكامله وسموه، والحديث الشريف عن الامام الصادق عليه السلام في جواب من سُئل: ما العقل؟ فقال: (ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان)، وكذلك الحديث المطول حول جنود العقل وجنود الجهل؛ لاشك انه صادق في بيانه بدليل ان العقل نور وهبه الله تعالى للانسان لكي يتكامل به، وطريق التكامل انما هو تلك الصفات التي يدعونا اليها الوحي. ثم إن التجارب تثبت صحة ما يدعونا إليه العقل والوحي، وعلينا أن نقرأ هذه الاحاديث بتأمل لتكون مناراً يهتدى به، ثم لتغدوا جزءاً من حياتنا وكياننا نعمل بها ولا نمرّ عليها مروراً.