بعد مغادرة المحتل والاستقلال التام ، لابد من دستورعلى وفق المقاسات العراقية
|
*إعداد / بشير عباس
ان يوم انسحاب آخر جندي امريكي من العراق يُعد يوماً مشهوداً في تاريخ العراق الحديث، وبالرغم من ان هذا الحدث الكبير رافقته احداث اخرى ربما جذبت اهتمام الاعلام والرأي العام بها. لكن لا يمنع من وقفة تأمل طويلة امام هذا الحدث المتميز والمشهود، ذلك أن الاحتلال بالاساس هو اقبح ظاهرة يتعرض لها شعب من الشعوب وبلد من البلاد، واثاره عادة تبقى لفترة طويلة جدا، ربما تتجاوز العقود وتصل الى قرون من الزمن، وهذه الحقيقة نجدها في الكتاب المجيد حيث يقول تعالى حكاية عن بلقيس ملكة سبأ: "إن الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون"، وهذا بمعنى ان الشر والفساد يعمّ القرية والبلد بمن فيه وما فيه.
ثم ان العراق لم يتعرض للاحتلال من بلد مجاور او دولة عادية، إنما من دولة كبرى في العالم، وتدعي أنها أقوى دولة في العالم، من هنا يجب ان يكون يوم رحيل قوات الاحتلال مشهوداً، وهذا لم يتحقق إلا بعاملين:
الأول: هي الارادة الالهية التي هي فوق كل ارادة، فهو سبحانه وتعالى اراد ان يمكن المستضعفين في الارض ويجعلهم قادة ويُري منهم ما كان يخشاه المستكبرون، فهو تعالى اراد ان يسقط صدام ، واراد ايضا ان يرحل الذي اسقطه.
الثاني: الارادة الجماهيرية في العراق، فالشعب كله كان مساهماً بنسبة او باخرى في صنع هذا الحدث التاريخي، ودون استثناء، فقد ساهمت القوميات والجماعات وكل فئات الشعب العراقي، بل يجب القول ان للشعب العراقي تاريخا طويلا في مواجهة المحتلين، من مواجهة (هولاكو) والغزو المغولي، والى مواجهة البريطانيين في القرن الماضي، وكان هذا التاريخ في الحقيقة نصب أعين المحتلين الجدد الذين وجدوا ان هذه الارض لا تتعاون كثيرا مع المحتل وانما ترفض وتبحث عن استقلالها، وقد أثبت الشعب العراقي، انه شعب أبي وشجاع وباستطاعته ان يقوم بدور في تقرير مصيره.
خروج المحتل، من أيام الله
بالرغم من اننا في ايام شهر صفر، وهي ايام حزن وحداد، لكن نعتقد في الوقت نفسه ان مثل هذه الايام، هي من ايام الله تعالى، لانه قد تجلت فيها ارادته تعالى.
ان ايام الله هي التي نرى آيات الله سبحانه وتعالى واضحة امامنا، بمعنى ان يوم عاشوراء هو من ايام الله بالرغم من انه يوم حزن، لان ارادة الله تعالى تجلت في يوم عاشوراء سنة 61 للهجرة، وفي كل سنة في مثل هذه المناسبة ايضا تتجلى ارادة الله وتتجدد، وذلك بهذه النفوس التي تُحيي مثل هذه الذكرى العظيمة. كذلك بالنسبة ليوم الغدير، و يوم عيد الفطر، ويوم عيد الاضحى، وايام اخرى في المفكرة. كما ان يوم نصر الله سبحانه وتعالى بني اسرائيل على فرعون كان من ايام الله، ذلك اليوم الذي أغرق الله فرعون وجنوده، وكان يعد نفسه اكبر قوة فوق هذه البسيطة، لكن ارادة الله تعالى شاءت ان تغرقهم وتنبذهم في البحر وتنقذ بني اسرائيل، وإذن؛ ذلك اليوم هو تجلّي لارادة الله تعالى.
من هنا يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بان نحيي مثل هذه الايام، وان نجعلها مشهودة في حياتنا حتى نعتبر بها ونستفيد من دروسها، ولذلك امرنا ربنا في سورة ابراهيم عليه السلام بان نتذكر ايام الله: "ولقد ارسلنا موسى باياتنا ان اخرج قومك من الظلمات الى النور وذكرهم بايام الله"، فقد اخرجهم من الظلمات الى النور... من ظلمات العبودية الى نور الحرية، ومن ظلمات العنصرية الى رحاب المساواة، ومن ظلمات الجهل الى نور العلم. ثم قال تعالى: "وذكرهم بايام الله"، حتى لا ينسون ان يد الله تعالى مُدت اليهم وانقذتهم. "ان في ذلك لايات لكل صبار شكور"، بمعنى الذي يصبر و يشكر و يقرأ التاريخ بدراسة واعية، والذي يتذكر نعم الله تعالى، سيعرف معنى ايام الله تعالى، ثم ربنا يقصّ علينا قصة بني اسرائيل، و كيف كانوا أذلين؟ وكيف انقذهم الله تعالى: "واذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم"، وهنا دعوة صريحة ومطالبة مشددة من السماء بتذكّر نعمة الله تعالى، "اذكروا نعمة الله عليكم اذ انجاكم من آل فرعون"، والآية تشير الى ان فرعون لم يكن شخصاً واحداً، إنما كان جماعة كبيرة (آل)، وبمعنى ان كان يموت فرعون يأتي فرعون آخر، وتستمر دوامة القمع والاضطهاد بحق بني اسرائيل: "يسومونكم سوء العذاب". والعذاب هنا كان يمثل منهج الحكم الفرعوني، فهم آنذاك لم يكونوا يريدون الحكم وحسب، إنما يتعمدون تعذيب الناس والتنكيل بهم والحاق الهزيمة النفسية بهم ليحسسوهم بعبوديتهم، أما اشكال العذاب فكانت دموية وبشعة: "ويذبحون ابنائكم". فالمولود الذكر الذي تلده أمه ينتظره سياف فيذبحه فور ولادته وامام أمه! "ويستحيون نسائكم"، أما الانثى فيبقون عليها للاستفادة منها لاغراض متعددة، "وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم".
نعمة الحرية والأمان
بعد هذا التاريخ، يجب على الشعب العراقي ان لاينسى انه كان يوماً ما يرى الجندي الامريكي او البريطاني او البولندي وغيره، في كل مكان وهو ينصب السيطرات على الطرق ويطالب الناس بهويات ثبوتية كما لو انهم اصحاب البيت والمواطنون أناس غرباء!
ثم تذكروا أيام الطاغية المقبور، وكيف كان يحصي حتى الانفاس، وكيف كان يمارس القمع والتنكيل والتضليل، كل ذلك من دواعي الشكر لأنعم الله تعالى: "واذ تأذن ربكم لان شكرتم لازيدنكم"، فبعد نشر راية العدل والحرية والامن و الرفاه والحمد لله. فان العدل يكون نحو الافضل والرفاه كذلك و الامن. ولكن؛ "ولئن كفرتم ان عذابي لشديد". وهذه هي من طباع الانسان. فهو عندما يصاب بأذى ويشعر بالألم فانه يتوجه الى الله بكل وجوده ليرفع تعالى عنه البلاء والمعاناة، لكن بمجرد زوال الألم والهمّ نراه يعود الى سابق طغيانه وظلمه لنفسه وللآخرين، وينسى انه كان يعاني ذات يوم من الألم والهمّ والازمات، فحينئذ يحلّ عليه العذاب، وهو العقاب الالهي، ولا يأتي سهلاً وبسيطاً انما عذاب شديد، كما يصفه القرآن الكريم، ولعله اشد عذابا من آل فرعون ومن عذاب الطغاة، ومن ذاك: "وقال موسى ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا فان الله لغني حميد". فلا يتصور ان الله يريد الشكر منكم، انما يريد الشكر منكم من اجلكم، بمعنى الشكر يصبّ في مصلحة الانسان نفسه.
هنا يظهر السؤال: ما هو وجه الشكر عند الشعب العراقي في هذه المرحلة؟
ان وجه الشكر يكمن في الامور التالية:
أولا: المحافظة على القيم الدينية
علينا تكريس تلك القيم التي ساهمت باذن الله في تحررهم. منها قيمة الشجاعة والتضحية وقيمة التعاون والوحدة وغيرها. ان الشعب واجه تحديات كبيرة لانجاح العملية السياسية وولادة تجربة ديمقراطية من خلال مشاركته في دورتين للانتخابات البرلمانية ودورة للانتخابات مجالس المحافظات والاستفتاء على الدستور، وذلك في ظل ظروف امنية مشحونة بالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة والتهديد بالقتل الجماعي في كل مكان وزمان. مما يمكن القول معه، ان الشعب العراقي خاض بالفعل ملحمة بطولية شارك فيها جميع ابنائه بكل فئاته وانتماءاته وفي كل المحافظات تقريبا، حتى المحافظات التي حُرمت من المشاركة في الانتخابات، كانت قلوبها مع الانتخابات، وفعلا، بعد استتباب الامن والاستقرار في تلكم المحافظات وسائر المناطق المتوترة التحق الجميع بالمسيرة الديمقراطية وبناء العراق الجديد.
من هنا يجب ان نحافظ على قيمة العطاء، وقيمة الامل، كما نحافظ على أهم القيم التي نملكها وهي قيمة الدين. فهذا الدين هو الذي كان يعطي صفة الشهادة لمن يقتل وهو في طريقه لتقرير مصيره في صناديق الانتخابات، لان الطرف المقابل كان المعادي للدين والانسانية، مهمته التكفير والتقتيل والدمار تحت شعارات كاذبة، وما تزال فلولهم تبذل المحاولات المستميتة للبقاء، وهم في ذلك يقتفون أثر الخوارج الذين ظهروا في عهد الامام علي عليه السلام، وما تزال الامة الاسلامية مبتلية بهذه الفئة الضالة.
ثانيا: دستور حسب المقاسات العراقية
يجب ان نفكر الان في تحويل هذه النعمة الى منظومة من النعم، و بتعبير آخر، نجعل هذه النعمة فاتحة خير لسلسلة أخرى من النعم الالهية. كيف ذلك؟
بعد ان تحرر العراق وحصل الفرد العراقي على كامل حريته وسيادته على ارضه ووطنه، فانه يتطلع بالتأكيد نحو المستقبل الذي يرسمه بيده، ليحقق طموحاته واهدافه في الحياة، وهذا لا يتم إلا عندما تكون هنالك جملة من القوانين المدونة والمشرعة والمتمخضة من صميم الواقع العراقي، لا أن تاتي من وراء الحدود، او من بيئات واجواء اخرى.
صحيح ان العراقيين صوتوا على الدستور، وهي خطوة هامة وكبيرة، كما ليس كل ما في الدستور خاطئ ويجب تغييره، إنما المشكلة في ان الكثير من مواد دستورنا مستوردة من الخارج ولا تنفع واقعنا وواقع الفرد والمجتمع العراقي، لاسيما مع التغيرات والتحولات السريعة التي يشهدها العالم. من هنا لابد للشعب العراقي من ان يجدد النظر في الدستور وما يضمه من قوانين وانظمة ولوائح، لان ما من قانون و لائحة سنّت في هذا البلد الا تحت ظل سلطة غير كاملة الاستقلال، وفي ظل التأثيرات الخارجية، وابرز مثال (قانون العقوبات البغدادية) التي كتبها لنا محتل بريطاني في مطلع القرن الماضي، هذا فضلاً عن القوانين التي وضعت بعدئذ و (الدستور المؤقت) الذي وضع في العهد البائد.
ان مسألة التعديل وإعادة الدستور توافق المنطق والفطرة، فليس من المعقول –مثلاً- ان يرتدي الولد ثوب أبيه بعد موته ويسير به في الشارع، لان قطعاً سيرى الناس فيه حالة النشاز، من طول الاكمام وترهل الجانبين وغير ذلك. لذا عليه ان يذهب الى الخياط ويفصّل ثوباً على مقاساته هو لا غيره. وهكذا القوانين والدساتير ، يجب ان تتولد من داخل البلد وليس من خارجها، فلا يصح ان يفصل الآخرون فيما علينا ان نلبس وحسب...!!
ليسمعني خبراء القانون وانا متخصص بالقوانين الدستوري، انه وبسبب التطورات السريعة في العالم، لايمكن ان يصمد دستور في بلد اكثر من 15ـ 20 سنة فكيف بالقوانين، والسبب هو ان العالم في تغير مستمر، ولذلك نجد عدم وجود قانون مكتوب لدى البريطانيين، أما الامريكيون فعندهم ست مواد ثابتة في دستورهم، والباقي قابلة للتعديل والتغيير حسب الظروف. وعليه فالعالم في حالة تغيّر وتطور، وليس بالامكان وضع قوانين ثابتة في هذا العالم المتغير. نعم؛ عندنا قانون الله تعالى الذي جاء به رسولنا الاكرم محمد صلى الله عليه وآله، المتمثل بالقرآن الكريم، فهو لا يتغير لانه هذا القانون لا يدخل في القضايا المتغيرة عادة، وحتى هذه فيها بعض ما يسمى بالتبصرة في القانون، وهي خاصة لحالات الاضطرار والحرج والضرر وفيه بعض التوجيهات في الفقه.
مع كل ما مرّ، نقرّ أن تعديل الدستور و القانون الاساسي او القوانين و الانظمة، ليس بالامر السهل ويتم بين عشية وضحاها، انما هو بحاجة الى وقت، لكن هذا لا يمنع من ان نضع القطار على السكة ونتوكل على الله تعالى لتبدأ مسيرة التغيير والتطوير قدماً، فنكون بذلك احرار في وضع القانون الذي يناسبنا والذي ينسجم مع ظروفنا، وبامكاننا تغييره وتطويره حسب الظروف.
ولا ننسى ان العراق بلد مسلم، قدم ملايين الشهداء خلال تاريخه من اجل الدين من اجل القيم والمبادئ الدينية والاخلاقية، وليس من الممكن سلخ هذا البلد عن تاريخه وقيمه وعن دينه، والشعب العراقي، حتى وإن سكت عن تهميش الدين لفترة من الزمن بسبب الظروف الصعبة، لكنه سينتفض يوماً ما، لانه لن يرضى بقانون يتعارض مع قوانين الدين.
من هنا نقول: الاسلام يجب ان يحكم، لانه نافذ في اعماقنا، وكل خلية من خلايا ابناء الشعب العراقي تنادي (ياحسين) وتنادي (ياعلي)، فهي تؤمن بهذا الطريق وهذا النهج، وهذا ما يجب ان نضعه بعين الاعتبار. ان العلماء والمراجع والحوزات العلمية والخطباء كان لهم دور في تربية هذا المجتمع على أسس صحيحة، وربنا سبحانه وتعالى يقول: "ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها". لقد مضت قرون من الزمان والعلماء والمفكرون واهل البصائر بذلوا جهوداً مضنية على هذا الشعب ليكون حاملاً القيم الدينية، فلا يسمح بعد هذا ان تأتيه مرة واحدة قوانين تعارض هويته الدينية.
ثالثاً: التفاهم والتعاون
ان العالم اليوم كله يراقب الوضع في العراق في مرحلة ما بعد خروج الاحتلال، فالعراق اليوم من دون قوات عسكرية اجنبية، وهو الذي يمسك بالملف الامني والعسكري وليس الولايات المتحدة او أية دولة اخرى، وهذا بمعنى انه امام آفاق العمل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فماذا يفعل وما هي افكاره....؟
من المعيب حقاً ان تكون باكورة مرحلة ما بعد الاحتلال، صراع ونزاع بين الاطراف السياسية على قضايا بسيطة تؤدي بنا للعودة الى المربع الاول. وبعد ان توضحت الامور، فان العراق بحاجة الى امرين لتجاوز الازمة:
الامر الاول: مشاركة فعالة من قبل الشعب في امور هذا البلد.
الامر الثاني: التعاون والتفاهم بين كل الفئات الموجودة، في سبيل بناء هذا الوطن، فالبناء ليس امرا سهلا، انما بحاجة وقت طويل، بل نحن بحاجة الى نظرة سريعة الى الدول المجاورة والى اين وصلت لنرى كم نحن متأخرون و(فاتنا القطار)، ولا يمكننا اللحاق بالقطار وبمسيرة التطور إلا بالتفاهم والتعاون وعقد الاجتماعات. والحقيقة فان العراق أحوج ما يكون اليوم الى اهل الخير واهل الحكمة والمصلحين مثل المرجع الراحل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء – رحمه الله- الذي كان له دور في اصلاح العلاقات بين تركيا وايران في بدايات القرن الماضي، واليوم ايضاً على حكماء العراق من علماء و رؤساء عشائر ان يدخلوا الساحة ويحاولون لملمة هذه الاطراف المختلفة ويتوجهوا باتجاه مستقبل واعد لعمل مشترك دون الرجوع الى المربع الاول.
|
|