اليقين مع الإيمان
|
*يونس الموسوي
يقول أهل المنطق أن الإنسان حيوان ناطق، وهو بمعنى أنه يتفوق على الحيوانات بمرتبة واحدة هي امتلاكه للعقل، فهل هذه النظرية صادقة دائماً؟ وهل الإنسان حقاً أشرف من الحيوان؟ وهل هو متفوق عليه في العلم والمعرفة؟
أعلى درجة العلم هي درجة اليقين، فمن يحصل على اليقين فقد حصل على المعرفة كلها، لكن القليل هم الذين يصلون إلى هذه الدرجة وذلك أنها بحاجة إلى خصال ومميزات غير متوفره في كثير من الناس، ونلاحظ أن هناك اهتماماً كبيراً من جانب الباري عزوجل بطرح هذا الموضوع في قرآنه الكريم وهناك آيات كثيرة تتحدث عن اليقين. فما هو نصيب الإنسان من هذا اليقين؟
نجد أن هناك تشكيكاً بمقدرة كل الناس على الوصول إلى مرتبة اليقين، بل أن الكثير من الناس سيصلون إلى مرتبة اليقين في عالم الآخرة حيث لاينفعهم يقينهم ولن يزيدهم إلا حسرة وألماً لما ضيعوه من فرصة الحياة الدنيا والاستفادة منها في سبيل العمل للآخرة.
وينقل القرآن الكريم عن أولئك الذين يتذوقون طعم مرارة الحسرة فيقول "يتساءلون عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ" (المدثر، 40-47).
لقد تحقق اليقين لديهم لمّا شاهدوا عالم الآخرة والجنة والنار وذاقوا طعم العذاب، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبرهم بذلك وحذرهم من هذا اليوم وأنذرهم بعذاب عظيم غير أنهم لم يتيقنوا من ذلك، ولم يقع اليقين في قلوبهم فأصبحوا من المكذبين الذين إتخذوا آيات الله هزوا. هؤلاء نموذج من فئة الناس الذين لم يلج اليقين قلوبهم ولكم نموذج آخر من عالم الحيوان يذكر هم الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم ويقول "وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ" (النمل،21-22)، وقصة سليمان والهدهد معروفة، غير أن الذي يهمنا من هذه القصة هو المتعلق بموضوعنا وهو اليقين، فإننا نلاحظ أن الهدهد يقول جئتك من سبأ بنبأ يقين، فهو بالتأكيد يعرف معنى اليقين، وأنه أحاط بشيء يقيني مالم يحط به غيره، وإذا تجاوزنا إستغرابنا حديث الطير عن المعقولات فأن ما يبعث على الإستغراب أكثر وأكثر هو حديث الهدهد عن اليقين، ومن يستطيع أن يتحدث عن اليقين؟ ومن الذي يستطيع أن ينقل خبراً صادقاً 100% من دون زيادة أو نقصان؟
لو نتابع القنوات الفضائية ومواقع الانترنت نجد كلا ينقل الخبر او المعلومة بشكل مختلف، فيزيد بالخبر وينقص فيه، وإذا حدث شيء في المدينة كانفجار أو غيره وحاولت أن تحقق عن الخبر لدى شهود العيان ستجد أن كل واحد منهم يتحدث عن الخبر بشكل مختلف عن الشخص الآخر.
غير أن الهدهد في قصة نبي الله سليمان جاء بقصة خبرية كاملة لا يشوبها أي نقص أو زيادة، هذه القصة التي غيرت مجرى تاريخ أمة، ومملكة كانت تعبد الأوثان، فتحولت إلى التوحيد بفضل ذلك الهدهد الذي كان يمثل دور الرسول في إيصال الرسالة إلى سليمان عليه السلام ويدفعه إلى تبني موقف تاريخي يساهم في تغيير أمته. فقد كان الهدهد على يقين، وكان الإنسان شاكاً ومرتاباً ولم يستقر على حقيقة ولم تطمئن نفسه إلى وجود الجنة والنار والحساب والكتاب، ولو كان متيقناً من ذلك ما كانت تحصل كل هذه الجرائم التي تقع يومياً في العراق وفي العالم أجمع.
وهناك رابطة عميقة بين سلوك الإنسان ومستوى يقينياته بعالم الآخرة، فالتفاخر بالكثرة والأولاد والمال إنما هو نابع من جهل الإنسان بحقيقة الدنيا وكونها زائلة ومتاعها قليل فيقول عزّ إسمه "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" (التكاثر،1-7).
إذن.. لن يصل الإنسان إلى حالة اليقين حتى يرى الجحيم، عند ذلك يشاهد العلم بعين اليقين ويتأكد من كل ما جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
هناك نسبة من التكذيب في داخل كل إنسان، وهذه النسبة هي مستوى وحجم ذنوبه في الحياة الدنيا، فبنفس مستوى هذه الذنوب هناك نسبة من التكذيب بالآخرة وبالغيب وبالجنة والنار، ولو كان الإنسان لديه عين اليقين بالنسبة إلى عالم الآخرة من الجنة والنار والبعث والحساب ما أذنب ذنبا واحدا قط، لأنه حين يهم بالخطيئة تترائى له بعين اليقين حقيقة الجحيم فيرتدع عن خطيئة لما يشاهده من الهول وما يلاحظه في نفسه من الفزع.
من هنا حثّ القرآن الكريم الإنسان المؤمن أن يبحث عن اليقين حتى يستطيع أن يثبّت نفسه على طريق الإيمان، وكيف يفعل ذلك والقلب متقلب بين الهوى والإيمان، فمرة ينجذب إلى هذا ومرة إلى ذاك.. لكنه يستطيع أن يعيد الإستقرار والثبات لهذا القلب عن طريق تحصيل اليقين فكيف يتحصل اليقين؟
ويحصل اليقين بالعبادة وقد أتى في الكتاب العزيز "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر ،99) وهذا الخطاب موجه إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم غير أنه يشمل البشرية جمعاء، والمؤمنون هم أولى من غيرهم بالعمل بهذه الآية حتى يكسبوا الإستقرار والثبات لإيمانهم، وأن يروا الأشياء بعين حديدية تعبر كل الحواجز والموانع المادية التي وضعت أمام الإنسان لتحجب رؤيته عن عالم الآخرة.
من هنا ندرك أن الدرجة اليقين هي أعلى من درجة الإيمان، وأن الذي يحظى بها هو في الواقع على يقين بكل ما جاء به القرآن الكريم والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يتحدث عن النار وكأنه يراها ويذكر الجنة وكأنه يرى أشجارها وقصورها وحورها ويشتاق إليها وإلى ما تحتويه من الخير والسعادة.
|
|