المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار..
الرباط الحضاري المقدس الذي خسره المسلمون اليوم
|
*علي جواد
كانت الهمم العالية والقلوب المؤمنة والمطمئنة تتسابق لوضع اللبنات فوق بعضها ليرتفع صرح الإسلام، ولتشييد أول نظام اسلامي عرفه العالم انطلاقاً من المدينة المنورة، فبعد هجرة الرسول الأكرم الى مدينة يثرب والتي قُدر لها أن ترتفع عن ذلك الإسم السيئ الدال على السقم والمرض، كان المسلمون المهاجرون من مكة، يتدرجون في علمية البناء المادي والمعنوي، وقد أمضوا حوالي العامين في هذه المدينة، محاولين أخذ فكرة عنها وعن مجتمعها، وقد واجهوا الترحاب من أهلها منذ الأيام الاولى، متفهمين ظروفهم القاسية وما خلفوه في مكة من اضطهاد وظلم على يد المشركين.
أما النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فقد قضى فترةً عند أبو أيوب الانصاري، جاء في سيرة (ابن هشام) انه أمضى فترة من شهر ربيع الأول وحتى صفر من العام الثاني للهجرة، وقد تخللت هذه الفترة بناء المسجد النبوي الشريف، وبإتمامه انتقل الرسول الأكرم مع زوجته زمعة بنت الأسود وكانت اول امرأة تزوجها بعد خديجة (رضوان الله عليها).
وخلال هذه الفترة بالذات حسب معظم أصحاب السِير والتواريخ صنع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حدثاً تاريخياً آخر ضمن سلسلة الأحداث المصيرية التي تركت أثرها عميقاً في الاسلام كنظام ومنهج للحياة، ألا وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ويعتقد المؤرخون إن هذا الحدث التاريخي العظيم وقع خلال شهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة، علماً إنه (صلى الله عليه وآله) كان قد آخا قبل هذا بين المسلمين الأوائل في مكة، وحسب معظم أصحاب السير والمؤرخين فان النبي الأكرم آخى بين أبو بكر وعمر وآخى بين الحمزة وزيد بن حارثة، وآخى بين عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وبين عبد الله بن مسعود وبين الزبير بن العوام، وترك علي بن أبي طالب، ولما سأله (عليه السلام) عن السبب في عدم موآخاته مع أحداً من المسلمين، أجابه (صلى الله عليه وآله): (أما ترضى يا علي أن أكون أخاك؟ فقال بلى يا رسول الله، قال فأنت أخي في الدنيا والآخرة.
هذه الحادثة كانت بمنزلة الوثبة لانطلاقة جديدة للمسلمين نحو تشكيل المجتمع الاسلامي الأول والنموذجي، وكان لابد في عملية البناء المتماسك، إزالة جميع الشوائب والموانع التي تتخلل بين لبنة وأخرى، تسبب ثغرة أو إعوجاج يؤدي بالبناء الى السقوط والانهيار، ومما رآه الرسول الأكرم في المجتمع الجاهلي من عمق الهوة بين الطبقات الاجتماعية والتمييز القاتل بين الانسان وأخيه الانسان، إرتأت حكمته اتخاذ هذه الخطوة العظيمة، ويحقق عدة أهداف في وقت واحد: أهمها، إزالة توثيق أواصر العلاقة بين المهاجرين من مكة والانصار في المدينة، إذ لم تكن ثمة علاقة أو رابطة تربط الطرفين إلا الاسلام والهجرة، وأيضاً ازالة جميع الفوارق والخصوصيات بين المسلمين، وكذلك استبدال علاقة الأخوّة والمحبة والمودة بعلاقة الخصام والعداء والثأر التي كانت سائدة في الجاهلية، وكان ممن شملتهم هذه الرحمة والمكرمة الأوس والخزرج، وهما القبيلتان المشهورتان عبر التاريخ، ولم تنته المعارك الدامية بينهما إلا بعد المؤاخاة، وأصبحوا إخواناً، الأخ المسلم الأوسي ينادي أخاه المسلم الخزرجي، ولتكون بعد ذلك الآية الكريمة الشعار التاريخي والحضاري لجميع المسلمين على مر الأجيال: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (آل عمران /103).
إن مجرد استذكار هذه الحادثة تثير فينا الشجون والأسى في الحقيقة، ونحن نرى بأم أعيننا حال المسلمين في كل مكان، ليس بين البلاد الاسلامية المتقطعة الأوصال وحسب، بل حتى بين أبناء البلد الواحد، وبلغنا درجة أخرى في الانحدار لتصل بن الأزمات والمشاحنات بين أبناء المدينة الواحدة، وهذا إن دلّ على شيء فانما يدلّ على المسافة البعيدة التي تفصلنا عن ذلك النموذج الذي ضحّى من أجله المسلمون الأوائل وأرسى دعائمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ضمانة لمستقبل المسلمين ولسلامة المجتمع الاسلامي.
طبعاً حينما نستذكر هذه الحادثة تثار أمامنا من حيث نريد أو لا نريد، حديث المؤاخاة الشهير، وهو ما أعلنه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمام جموع المسلمين المتآخين بشأن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وهو حديث أجمعت معظم مصادر أهل السنة على تأكيده، فقد جاء هذا الحديث في سيرة ابن اسحاق وابن هشام والحلبي وابن دحلان، كما أكده المؤرخون المعروفون مثل الطبري وابن الأثير، كما جاء الحديث في كتب الصحاح مثل الترمذي والنسائي وغيرها من كتب التاريخ والحديث والتفسير، إلا شخص واحد يذكره السيد هاشم معروف الحسني في (سيرة المصطفى) وهو الشيخ محمد ناصر الدين الالباني في تعليقه على (فقه السيرة) للشيخ محمد الغزالي، ويقول الحسني: لقد شقّ على الالباني أن يمر على حديث المؤاخاة من غير ان يبدي ما في نفسه على الشيعة ويصف رواتهم ومحدثيهم بالكذب، لينتهي بان حديث المؤاخاة لعلي لم تثبت إلا من طريق بعض رواة الشيعة وهوحكيم ابن جبير أو جميع بين عمير، وعيبهما الوحيد انهما متهمان بالتشيع!
تطرقنا الى هذه الموضوع على سبيل الإشارة، لإيماننا بان تخرصات بعض المهزومين أمام شمس الحق والحقيقة، لاتلغي حقيقة تاريخية ثابتة، ولن نكون بحاجة لأن ندور في الدوامة التي يدور فيها أولئك الضالون الذين لا سبيل لهم في الحياة إلا هذه الدوامة المفرغة، فيما نحن بأمس الحاجة لإعادة تلك الروح الحضارية والانسانية السامية التي سبقت كل الأمم والمجتمعات البشرية، ومن خلالها دخل الناس من شرق الارض وغربها في دين الله أفواجاً، لأن المؤاخاة والأخوّة تعطي قبل أي شيء، الانسانية والمحبة والسلام بين أفراد الدين الواحد. فلا المال ولا الجاه ولا المكانة الاجتماعية أو السياسية أو العرق واللون، وجميع الفوارق، تتمكن من أن تعلو جدار الأخوّة التي أرساها نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله).
|
|