عبد المطلب
سيد قريش وزعيمها
|
محمد طاهر محمد
في عصر يعجّ بالوحشية وتهيمن على عقول الناس فيه الأوثان والاصنام وفي مجتمع تسوده الرذيلة وتعشعش فيه الاباطيل والخمور والفجور وغزو القوي للضعيف، كان نفر من الناس يعبدون الله عز وجل ويوحّدونه وينفون عنه كل شريك ونظير، ومن هؤلاء النفر قيس بن ساعدة الايادي وزيد بن عمرو بن نفيل وفي طليعة هؤلاء النفر زعيم بني هاشم عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله (ص) وقد عدّ اهل السير عبد المطلب من المتألهين كما ذكروا أن دوره كان دور ايمان بالله ودور اعتزاز بخدمة بيت الله وبها تميز وتطاول على الآخرين وتفوق على الناس كما انفرد بالخلق الرفيع والصفات الفاضلة الجميلة وتحلى بالمفاخر والمآثر كافة.
وقد اشتهر عبد المطلب بعبادة الله والتجائه إليه لذا كان الناس يقصدونه في الأمور الصعاب وفي الشدائد والاهوال وكلما دعتهم الحاجة فما يجدونه إلا ملبياً حاضراً لكل متطلباتهم بكل رحابة وكانوا يقصدونه للاستسقاء عند حبس الارض بركاتها والسماء درها فيخرج مستصحراً فلا يأتي على آخر دعائه إلا ويستجيب الله دعاءه فيرحم الناس بالمطر ويغنيهم من القحط والشدة. يحدثنا المسعودي في مروج الذهب ج1 ص390 في ترجمة عبد المطلب فيقول: (وكان عبد المطلب مقراً بالتوحيد مثبتاً للوعيد تاركاً للتقليد – إلى أن يقول-: وكان أول من اقام الرفادة والسقاية وهو أول من جعل باب الكعبة ذهباً خالصاً مطعماً بالاحجار الكريمة على حسابه الخاص الشخصي وكان يفتخر بذلك بقوله:
أُعطي بلا شحٍ ولا مشاحح سقياً على رغم العدو الكاشح
بعد كنوز الحلي والصفائح حلياً لبيت الله ذي المسارح
وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (والله ما عبد ابي ابو طالب ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم بن عبد مناف وثناً ولا صنماً قط، وإنما كانوا يصلون إلى الكعبة على دين الخليل ابراهيم) ومن كراماته أنه بدعوته ودعائه خلّص الله الكعبة ومن بفنائها من الناس من شرور ابرهة الحبشي واتباعه الذين أرادوا نقض الكعبة ونسفها من الاساس فكان عبد المطلب في اكثر اوقاته آخذاً بعضادتي باب الكعبة وهو يردد:
يا رب إن المرء يمنع رحله فأمنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك
وهكذا ظل عبد المطلب متوسلاً إلى الله ومتضرعاً إليه وراجياً منه تعالى أن يقي البيت الحرام ويدفع عن الناس مكائد الاحباش:
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع عنهم حماكا
حتى استجاب الله لدعوة عبد المطلب وثأر لبيته وخلقه فأرسل على الاحباش طير الابابيل.
وهناك موقف بطولي آخر لعبد المطلب، هذه القصة دلّت على مدى ايمانه العميق بالله ورسوخ عقيدته بالبيت الحرام وأن رب البيت سبحانه وتعالى لن يخذله، فعندما جاء ابرهة بالاحباش لهدم الكعبة وقلعها من جذورها وعسكر بالقرب من مكة المكرمة واخرج الفيلة ليرهب الناس ويبعث الوجل في النفوس، ثم صار جيشه إلى نهب المواشي التابعة لقريش وابلها وكان من جملة ما انتهبوه إبلاً لعبد المطلب مما حدى بعبد المطلب للذهاب إلى ابرهة في معسكره ومخيمه ليستنقذ اموال الناس ومن ضمنها ابله ومواشيه ولما وصل إليه رحب به واعظمه واحترمه واكرمه ثم قال له: ألك حاجة فأقضيها؟ وكان يحسب أنه جاء لغاية تخليص الكعبة من الهدم والنقض، فما استشعر إلا أن ابله نهبت مع ما نهبه الجيش من مواشي الناس وعندها قال له ابره: حسبتك ترجو مني ما هو اسمى وأجل عندكم من الابل والاموال حسبتك إنك تأمل العفو عن كعبتكم ومعبدكم المعظم! فقال عبد المطلب: أيها الملك أما أنا فرب الإبل، وأما البيت فله رب يحميه ويمنعه من أي اعتداء واساءة ثم نهض للخروج فأمر ابرهة برد الإبل وجميع ما اخذه الجيش من مواشي وابل من قريش كرامة لرئيس مكة وزعيهما عبد المطلب.
وبعد أن عاد عبد المطلب إلى مكة نادى باهلها واعلمهم بنية ملك الحبشة من الابادة والتدمير ثم القضاء على البيت الحرام مهما كانت الموانع والحواجز وأنه لا يقف في طريقه شيء في تحقيق ذلك، فاجتمع رأي قريش على الفرار بارواحهم وذراريهم من الموت المرتقب في عشية وضحاها واللحوق ببطون الاودية ورؤوس الجبال هذا رأي زعماء قريش ورؤوسائها ولكن ما هو موقف عبد المطلب في ذلك الوقت لقد سجل التاريخ موقفه البطولي الشجاع الذي دل على رسوخ ايمانه بالله حينما صاح: أما انا فابقى مرابطاً في البيت حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
اجل إن مثل هذه المواقف لا تأتي من إنسان عادي بل من إنسان ورث الشجاعة والبطولة سيد عن سيد وبطل عن بطل فاورثها أولاده وبخاصة ابنه الأكبر ابو طالب الذي يقول فيه رسول الله (ص): (رحم الله عمي ابا طالب فلو اولد الناس كلهم لولدوا شجعاناً) فالشجاعة احدى صفات بني هاشم التي اشتهروا بها بين سائر قريش والعرب.
ولما خرجت قريش من مكة مرغمين خائفين تاركين وراءهم رئيسهم وسيدهم عبد المطلب ظلوا يرقبون الاخبار ويتطلعون عن كثب إلى ماسيصنعه الله بالاحباش حتى انتقم الله من ابرهة فكتب بذلك عبد المطلب إلى قريش فعادوا مستبشرين الى مكة إذ استجاب الله لدعاء عبد المطلب وارسل طير الابابيل كما وردت هذه القصة في القرآن الكريم في سورة الفيل. ولما انتقم الله لبيته وخلقه وارجع كيد الاحباش إلى نحورهم وصدورهم فرح عبد المطلب وكتب إلى قريش يعلمهم وانشأ يقول:
حمدت الله إذ عاينت طيراً حصيب حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل كأن له على الحبشان دينا
وكان عبد المطلب يوصي ولده أبا طالب بصلة الرحم واطعام الطعام والايمان بالبعث والمعاد وجعل إليه سدانة البيت الحرام وسقاية الحاج ورفادتهم ومن تلك الوصايا قوله:
ايها الداعي لقد سمعتني ثم مابي عن نداكم من صممْ
إن للبيت لرباً مانعاً من يرده بآثام يصطلمْ
فانثنى عنه وفي اوداجه جارح امسك منه بالكظمْ
قلت والاشرم برمي حيلة إن ذا الاشرام عز بالحرمْ
فجزال الله فيما قد مضى لم يزل ذاك على عهد ارهمْ
نحن دمرنا ثموداً عنوة ثم عاداً قبلها ذات الارمْ
نعبد الله وفينا سنة صلة القربى وايفاء الذممْ
لم تزل لله فينا حجة يدفع الله بها عنا النقمْ
كما كان يكثر من الوصايا بالنبي (ص) ومن ذلك قوله مخاطباً ولده ابا طالب:
أوصيتُ من كنيته بطالب بابن الذي قد غاب غير آيب
وقوله:
أوصيك يا عبد مناف بعدي بواحد بعد ابيه فرد
*اعادة الحياة إلى بئر زمزم
وقد ألهم عبد المطلب أن ينقب عن زمزم وقد عثر عليها فنظفها ونقاها من الادران وجعلها صالحة للاستعمال وعلى أثر هذا الاصلاح ثارت ثائرة قريش وتعالى وتعاظم حسدها وحقدها لعبد المطلب على ما آتاه الله من فضله. وأخيراً نازعوه العين زاعمين أنها تعود للقرشيين بصورة عامة باعتبار أنها موروثة من الجد الأعلى اسماعيل (ع) فهم فيها شركاء وتوسعت الخصومة واشتدت واخيراً اجبروا عبد المطلب على المحاكمة عند الكاهنة فوافق مضطراً حفاظاً على بني هاشم وحرصاً على سيادة الامن والسلام فساروا جميعاً لحضور المحاكمة وبينما هم في الطريق وكان الوقت شديد الحر فعطش القوم واضرّ بهم فأشرفوا على الموت فما وسعهم إلا أن يلوذوا بملاذهم وكهفهم جد الرسول عبد المطلب فاستجاروا به من العطش فما كان من عبد المطلب إلا أن يسأل الله عز وجل أن يسقي القوم ويمن عليهم بالماء فما استتم دعاءه إلا وانبع الله الماء من تحت حافر فرس عبد المطلب ففرح القوم وشربوا الماء وحينما شاهدوا هذه الكرامة لجد النبي (ص) قرّ رأيهم بالاجماع على أن يتنازلوا له عن زمزم ويعدلوا عن فكرتهم وصارحوه بما نووا وكروا راجعين إلى مكة.
*الكرامة الإلهية
وليس عجيباً إجراء مثل هذه الكرامة من قبل الله عز وجل على يدي عبد المطلب فهو صلب الايمان وطيد الثقة بالله عز وجل كما ذكرنا في قصة ابرهة عندما لازم عبد المطلب البيت الحرام ولم يفارقه معتمداً على الله ومما يؤكد ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله الانصاري عن رسول الله (ص) أنه قال: (لما عرج بي إلى السماء ليلة الاسراء فانتهى بي إلى العرش فرأيت على ساق العرش أربعة انوار فقلت: إلهي ومولاي وسيدي ما هذه الانوار؟ فقال عز وجل: يا محمد يا حبيبي هذا نور جدك عبد المطلب وذاك نور عمك ابي طالب وهذا نور ابيك عبد الله وذاك نور أمك آمنة بنت وهب، فقلت: الهي وبماذا قد استحق هؤلاء منك هذه الكرامة؟ قال تعالى: لايمانهم بي واعتمادهم عليّ).
ثم أن عبد المطلب كان يحمل نور النبوة في صلبه وهو النبي المصطفى (ص) حبيب إله العالمين واقدس انسان عرفه الوجود، فغير بعيد ابداً أن تجري هذه الكرامة على يديه وكان عبد المطلب يعرف أن ولداً من صلبه سينقذ به الله البشرية من الضلال إلى الهدى وكان يبشر به إذ رأى ذات ليلة كأن شجرة قد نبتت على ظهره وقد ضربت اغصانها على الدنيا وامتدت إلى المشرق والمغرب وكأن الناس قد سجدوا لتلك الشجرة وكانوا لها خاضعين خاشعين ورأى بعضاً من قريش وقد تعلّق ببعض فروع الشجرة ورأى البعض الآخر يحاول قطعها واستئصالها وكلما قربوا منها يقوم في وجوههم شاب لم ير قط اجمل ولا انبل منه فيصدهم ويمنعهم بقوة وحماس عن الدنو إليها بسوء، يقول عبد المطلب: فدنوت انا وحاولت التعلق بغصن منها ولكني لم استطع ذلك فقلت في نفسي: الخير كل الخير لهؤلاء الذي ساعدهم الحظ والتوفيق على التعلق والتمسك ببعض فروعها ثم انتبه مرعوباً وقصّ رؤياه على ولده ابي طالب، يقول ابو طالب: فرأيت أبي فرح أولاً، ثم بدت على وجهه واساريره علامات الاستياء والتأثر فقلت: يا ابتاه رأيتك فرحت أولاً واستأت أخيراً؟ فقال: يا ابا طالب أما فرحي فلأن الوليد المرتقب هو النبي الذي بشرت به الكتب السماوية من قبل ونقله الخلف عن السلف من آبائك الاكرمين وبالملازمة يسود الدنيا من أقصاها إلى اقصاها وهو أمر يستلزم المسرة والفرح لأنه الشرف والمجد اللذان يتضاءل امامها أي شرف ومجد، أما جهة استيائي وتأثري أولاً لمحاولة القوم قطع الشجرة واجتثاثها ومحاربتها بكل الوسائل والحيل وثانياً من ناحية إني لم ادرك الزمن الذي يكون فيه ولدي نبياً وسفيراًَ عن الله عز وجل.
ومن كرامات الله عز وجل على عبد المطلب أن صار أميناً مخلصاً وكافلاً حنوناً للنبي (ص) وذلك على أثر موت عبد الله وآمنة والدي رسول الله (ص) فكفله افضل كفالة وقام بتربيته خير قيام وحينما احس بدنو اجله أراد أن يوصي بالنبي (ص) لمن يقوم مقامه في تربيته ورعايته فلما دنت منه الوفاة أمر ولده أبا طالب أن يحمل سريره من داره إلى البيت الحرام فيجعله بفناء الكعبة وعند استارها المباركة فامتثل ابو طالب فحمل السرير إلى حيث أراد ابوه ثم نقل ابو طالب اباه إلى سريره فنام عليه والتف اولاده حوله كما احاطت به جموع بني هاشم وصار الناس من الزعماء والرؤوساء يتهافتون على زيارته وتظهر على ملامحهم شعارات الحزن والألم وكان رسول الله في ذلك الحين طفلاً صغيراً يصعد على السرير فيتلقاه جده بكل سرور فيجلسه معه على السرير ثم التفت عبد المطلب إلى ابي طالب وقال: يا ولدي إني مفارقكم عما قريب فاذهب إلى جوار ربي وغفرانه وهذا محمد وديعتي بل وديعة الله عندك، يا ابا طالب بحرمة ابوتي عليك احفظ وصيتي في محمد اكفله انت بنفسك ولازم رعايته بشخصك ثم أنشأ يقول:
أوصيك عبد مناف بعدي بواحد بعد ابيه فردِ
فارقه وهو ضجيع المهدِ فكنت كالأم له في الوجدِ
وبالحشى الصقته والكبدِ حتى إذا خفت فراق الوغدِ
اوصيك أرجى اهلنا للرفدِ بابن الذي غيبته في اللحدِ
بالكره مني ثم لا بالوعدِ وخيرة الله تشافي العبدِ
ولما سمع ابو طالب التأكيد من أبيه على رعاية محمد والاعتناء به قال: يا ابتاه طب نفساً وقر عيناً فإني والله سأقوم بكل وصاياك وافدي محمداً بنفسي وأهلي وولدي وبكل ما تناله يدي مادمت حياً، فرفع عبد المطلب يديه نحو السماء وقال: اللهم رب الارباب ومالك الارض والسماء بارك في ابي طالب ووفقه لكل خير.
ونقل ابن شهر آشوب: إن ابا لهب والعباس طالبا بكفالة النبي (ص) من ابيهما فقال عبد المطلب: من الافضل أن نتركه هو يختار لنفسه من يشاء من عمومته فقام رسول الله (ص) وجلس في حجر عمه ابي طالب فقال ابو طالب: والله يا والدي هو عندي أعز من نفسي وولدي ولأنعمنك عيناً إن شاء الله وهكذا انتقل عبد المطلب إلى جوار ربه وهو مطمئن البال بعد أن ترك حفيده بيد أمينة
|
|