قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

المطالبة بالحقوق الكبرى وطموح التغيير الكبير
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة * بقلم العلامة الحجة الشيخ نمر باقر النمر
لا ريب أن لكل مَنْ يعيش على بقعة من بقاع الأرض حقوقاً عامة وأخرى خاصة، متنوعة ومتعددة بتنوع وتعدد العناوين التي يتعنون بها الإنسان؛ وهكذا لكل طائفة دينية، ولكل فئة اجتماعية، ولكل جماعة معنونة بعنوان خاص بها؛ حقوق عامة تشمل الجميع، وحقوق خاصة بها؛ وهكذا تتنوع وتتعدد الحقوق بتعدد العناوين الطائفية أو الفئوية أو الفردية؛ ولا ضير في ذلك، ولا يوجد إشكال شرعي ولا نهي إلهي، ولا حتى إشكال قانوني بشري يمنع المطاللبة بتلك الحقوق، والعادة والغالب لا تكون الحقوق الخاصة بطائفة أو فئة أو جماعة إلا فتات من فتات حقوقهم الإنسانية العامة. لكن هذا لا يعني بأي حال من الاحوال غضّ الطرف عن رفع سقف المطالب لتشمل الحقوق العامة والعليا، ولتعرف الفئات والطوائف والجماعات ان ما يطالبون به من حقوق مشروعة دينياً وإنسانياً.
لا... للمطالب المحدودة
نعم؛ هنالك مطالب خاصة بفئة أو جماعة معينة، مثل ما نشهده من مطالب الشيعة في البلاد الاسلامية، مثل تشييد الحسينيات والحوزات العلمية، أو مطالبة المرأة بحقوقها ومنها قيادة السيارة – مثلاً- أو مطالب بعض أهل السُنة بهدم القبور ودرس الآثار و... لكن الاشكالية هنا تكمن في مشروعية هذه المطاليب وحقانيتها حتى وإن كانت ذات سقف عالٍ وتحمل طموحات كبيرة، وإلا فان اهل الكوفة في عهد الامام أمير المؤمنين عليه السلام طلبوا بالأكثرية حياة الدعة والراحة واللامسؤولية وآثروها على طاعة القيادة الربانية والحياة الآخرة. لذا لم تكن مطالبهم مشروعة ولا معقولة، وكان المآل هو الهزيمة والهوان وضياع الأمة. وعليه فان مشروعية المَطالِب الخاصة تتوقف على أمرين ضروريين:
1. إن يصدق على المُطالَب به أنه حق من حقوقهم. فمتى ما كان المُطالَب به هو حقٌّ ثابتٌ جاز بل قد يجب لصاحبه أن يطالب به، أما المطالبة بمَطالِب ليست هي من الحقوق الثابتة للمُطالِب فلا تجوز؛ لأن المطالبة بها هي عدوان على الغير، وتطفيف في الميزان.
2. أن لا يكون استرداد الحقوق الفئوية أو الشخصية فيه تعدٍّ على حقوق الفئات الأخرى، أو على حقوق الأفراد الآخرين، أو على الحقوق العامة؛ ولو بشكل غير مباشر؛ حيث يتخذها الطاغية وسيلة لتعزيز استحواذه على السلطة، وغطاء لسلب ومصادرة الحقوق العامة، أو حقوق الفئات الأخرى، أو حقوق الأفراد الآخرين؛ لأن الطاغية مستعدٌّ لذلك، حيث يعطي بعض الفئات وبعض الأفراد كامل حقوقهم أو بعضها أو أكثر منها؛ ليتخذهم جنداً ينتصر بهم، وأعواناً يركن إليهم، أو ليقطع ألسنتهم، ويجمد حركتهم، ويفصلهم عن النسيج الشعبي المستضعَف فيزيده ضَعفاً على ضَعف. فهذا معاوية يسعى جاهداً لكسب سودة بنت عمارة، في قصة مطولة يذكرها التاريخ، ويأمر بإنصافها، والعدل عليها، وإعطائها حقها، ولكن دون حق قومها؛ فرفضت واعتبرت رضاها وقبولها بحقها دون حق قومها فاحشة ولؤم.
إن المطالبة بالحقوق الأساس والكبرى، هي التي تُعَبِّد الطريق لاسترداد جميع الحقوق الخاصة صغيرها وكبيرها، وضيعها وعظيمها؛ لأن الله جعل للإنسان - بعيداً عن عنصره وعقيدته وموطنه وجميع تعنوناته - حقوقاً عظيمة لا يمكن أن تعدّ أو تحصى تفصيلاً أو تفريعاً؛ لأنها تتسع بسعة الزمان والمكان والظروف الموضوعية والشخصية، وهكذا تتسع بسعة التغيرات والتحولات، ولكن مع كل هذه السعة المتزايدة يمكن أن تحصى إجمالاً وتأصيلاً؛ فالكرامة والعدالة والحرية والأمن والرفاه حقوق ضرورية للحياة الطيبة التي لا يمكن بل يستحيل أن تتحقق الحياة الطيبة إلا بها، وهذه الحقوق تتسع وتزداد آناً بعد آن، ولا يمكن حصر مفرداتها الفرعية، ولكن يمكن تعداد وإحصاء وإجمال أصولها التي تجمع كل تفريعات وتفصيلات فروعها؛ التي يمكن للفقيه الشرعي والقانوني أن يستنبط ويستخرج من هذه الأصول كثيراً من فروعِ وتفصيلاتِ الكرامة والعدالة والحرية والأمن والرفاه؛ التي تلبي تطلعات وحاجيات، بل وكماليات الإنسان الفرد والمجتمع، الزمانية والمكانية.
الرأي سجين الذات قبل الطاغية
إن الحقوق الكبرى والعليا للانسان ليست مفاهيم منفصلة ومستقلة، إنما هي شبكة مترابطة من المفاهيم والقيم التي لا غنى لواحد عن الاخر، فالكرامة هي الأرضية الخصبة للعدالة، والعدالة هي القاعدة التي تتأصل وتقوم عليها الحرية، والحرية هي الأركان والأعمدة التي يعتمد عليها جدران وسقف الأمن، والأمن هو الحواشي والكسوة التي تزخرف وتلون الرفاه وتسد الفراغات. فالكرامة شجرة طيبة؛ جذرها العدالة، وجذعها الحرية، وأغصانها الأمن، وثمرتها الرفاه الشامل الذي يحقق الحياة الطيبة. من هنا نجد سياسة السلطات الطاغية دائما ما ترتكز وتقوم على مصادرة حق الكلمة الحرة؛ من أجل تغييب الإنسان الفرد والمجتمع والأمة عن الحياة؛ وهذا التغييب للإنسان هو الذي يُمَكِّنُها من الاستمرار في تسلطها واتخاذها العباد خولاً والأموال دولاً، كما يُمَكِّنُها من استحكام احتكارها للسلطة والمال.
وتعتمد السلطات الطاغية لبقائها في الحكم والتسلط جاثمة على صدور المجتمع على صنع وإيجاد أهداف وهمية، أو إشغال الناس في دائرة فتات الفتات من الحقوق، أو دوامة شكلية الأهداف والحقوق؛ بدلاً من استحضار الأهداف الحقيقية، والحقوق الأساسية، وبدلاً من التطلع لِلُبَّ اللباب من الأهداف والحقوق، ولذا تعبث ببوصلة الأهداف والحقوق وتوجهّها كيفما يخدم بقاءها في السلطة والتسلط؛ ومن خلال العبث ببوصلة الأهداف والحقوق تتمكن من العبث بالإنسان الفرد والمجتمع والأمة، كما تتمكن من فرض وبقاء هيمنتها وتسلطها واستعبادها لهم؛ فحينما تكون الأهداف الكبرى والعليا للسُّنَّة وشغلهم الشاغل هو السعي لهدم القبور وتدمير الآثار، والهدف الشاغل للمرأة هو التطلع لقيادة السيارة، وأهداف الشيعة التي يتطلعون لتحقيقها هي بناء الحسينيات ورفع الأعلام السوداء، والأهداف التي يتطلع إليها عموم المجتمع وينشغل بها هي الأسهم المالية، والمتابعات الرياضية، ولهو الانترنت وهموم الطعام والجنس، حينئذٍ تُغيَّب أو تُحَجَّم الأهداف الإنسانية الحقيقية، من الكرامة والعدالة والحرية؛ لتحل محلها المطالب الوقتية والتي تنتهي باستيفائها. وهذا ما يسعى لتكريسه الطغاة، لذا نراهم يهتزون لدى سماع المعارضة تصدح بصوت الكرامة أو تَزْأر بالعدالة، أو تُزَمْجِر بالحرية؛ فتبادر مسرعة لاعتقال الأحرار والأباة لتسطيح الحراك السياسي وتحجيم العمل المعارض، وتضييع السعي الحقوقي، وإخراج كل ذلك وإبعادها عن عمقها الحقيقي، وإشغال أهله وإيهامهم بالصَّدَف بدلاً من نور اللؤلؤ؛ واستهلاك جهود الناس وتطلعاتهم، وإحرافهم وإشغالهم عن أهدافهم وحقوقهم ومطالبهم إلى المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين؛ وهو حق، بل واجب؛ ولكن لا يجوز أن تختزل الأهداف وتستهلك الجهود فيه؛ لأن المعتقلين لم يعتقلوا إلا لأنهم نطقوا بالحق، فرفضوا الاستعباد، وقاوموا الظلم، ودافعوا عن الحرمات الإنسانية، فنشروا شراع الحرية، وأمروا بالعدل، ولم يرتضوا عن الكرامة بدلاً؛ فلا يجب – والحال كذلك – الاعتقاد بان إطلاق سراح المعتقلين يعد انجازاً كبيراً وعظيماً؛ أو حينما يُفرج الطاغية عن معتقل الرأي والسجين السياسي، فيكتفوا به عن بقية الأهداف الحقيقية، والحقوق العليا، ويتوقفوا عن الحراك السياسي، ويتراجعوا عن العمل الحقوقي، والحال أنه لم يكن هدف الطغاة من اعتقال الآمرين بالعدل والناطقين بالحق إلا اتخاذهم رهائن تقايض بهم المجتمع أهدافه الحقيقية.
نعم؛ إن السعي والحشد لإجبار السلطة الطاغية على إطلاق معتقلي الرأي السياسي والفكري حق لا يجوز إسقاطه، بل واجب لا يجوز إهماله، ولا يجوز للمجتمع خذلان الآمرين بالعدل، المجاهرين بالرأي السياسي الرشيد، ويجب على المجتمع الحشد والسعي والتضحية من أجل فك قيودهم وإطلاق سراحهم، وهو جهد مبارك يُشكَر الساعون إليه، والذين يسعون لذلك هم الذين استجابوا لربّهم، وهم أهل الشورى، وسعيهم تجسيدٌ لقول الله تبارك وتعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ". لكن مع كل ذلك ليس هو الهدف من الحراك السياسي، والسعي الحقوقي.
إن المجتمع الرشيد هو الذي يتخذ من المطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين بوابة للانطلاق إلى الآفاق السياسية الرحبة، والتنوعات المطلبية المشروعة، والأصول الحقوقية العليا، وتنشيط أبنائه للحراك السياسي و رفع سقف مطالبه وحقوقه، والجهر بالرأي على الملأ، والحديث بلغة قوية ومسموعة. وهو الذي يتطلع ويسعى لبناء قدرته التي تمنع الطغاة من اعتقال أصحاب الرأي الثاقب والموقف السديد. والمجتمع الرشيد هو الذي يتطلع ويسعى لتحرير الرأي المعتقل من جبت الخوف الذاتي أولاً، ومن التفكير الاجتماعي الضيق ثانياً، ومن غياهب سجون الاستبداد الطاغوتي ثالثاً. فإذا تحرر الرأي من جبت الخوف؛ هنالك سيتمكن من التحرر من زنقة التفكير الاجتماعي. وإذا تحرر من زنقة التفكير الاجتماعي؛ سيتمكن من التحرر من غياهب سجون الاستبداد الطاغوتي، واذا تحقق ذلك فان الفكر الرشيد سينمو وينعم أهله ايضاً بوجود عدة نتائج:
1- التوليد المستمر والمتنامي لجموع الأفكار الراقية والمبدعة.
2- الإبداع الدائم والمتجدد للنظريات الخلاقة واليقينية.
3- العمل التقدمي والريادي للنهوض الاجتماعي المتنامي، والبناء الحضاري الشامخ الذي يحلق بجناح العقل الإنساني، وجناح الوحي السماوي إلى قمم الحياة والوجود، وإلى حيث تزكو البلاد والعباد طهارة وسموّاً في جميع نواحي الحياة.
لقد آن الأوان للمرأة والسُّنَّة والشيعة والمجتمع أجمع أن يخرجوا من ضيق الأفق ومحدودية الحقوق، وشكلية الأهداف، ويرفعوا سقف مطالبهم بالحقوق المشروعة لهم، ويرتقوا بمطالب سامية، وحقوق عليا عامة وشاملة تتكفل بتحقيق كل المطالب الخاصة فضلاً عن الأهداف البسيطة والحقوق الصغيرة.
وليسعَ الجميع، وليجاهد الكل لتحرير الرأي المعتقل من زنزانة الذات، وسجن المجتمع، وغياهب الطاغوت. وليكن الرأي السياسي المعتقل هو الأجدر والأحق بالتحرير أولاً؛ لأنه سيد المفاتيح الذي ستفتح به أقفال جميع الزنازين، وكافة العنابر، وكل الغياهب المظلمة بالاستبداد والتعذيب والطغيان.
البرلمان المنتخب. . الهدف السامي
بما أن الحرية السياسية هي أقصر السبل وأقومها لكل الأهداف والحقوق الكبرى والعليا، والصغرى والدنيا. وكل حق دون الحرية السياسية ترقيعٌ لن يزيد الشرخ إلا اتساعاً وبعداً؛ فانه لابد من الاصرار على طموح سياسي عالٍ يخرج الامة من ربقة الديكتاتورية والتخلف، ومن أبرز معالم هذه الحرية وجود مجلس نيابي منتخب يأتي من خلال انتخابات حرة نزيهة، يكون فيه النواب ممثلي المجتمع في تحديد وصياغة وتطوير بنود العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما ينظم العلاقة فيما بين فئات وأفراد المجتمع، وبالتالي يكون المجلس هو الذي ينتخب رأس السلطة التفيذية، ويزكي بقية أعضائها؛ ليكونوا وكلاء عن المجتمع، ومن ثم يكون المجلس بعد ذلك رقيباً على السلطة التنفيذية، ومحاسباً لها، وله المكنة من إقالة أي مسؤول في السلطة التنفيذية، بحجب التزكية عنه، وإلغاء وكالته عن المجتمع. وأي مطلب دون المجلس النيابي المنتخب من قبل المجتمع، والذي له صلاحية التقنين والسلطة على السلطة التنفيذية؛ سيكون مطلباً قائماً على عقدٍ متزلزل غير ثابت، ولن يضمن له البقاء ولا الاستمرار، وبالتالي ستكون كل قواعده رجراجة، وسيذهب في مهب الريح، ويزول في أول عاصفة لشهوة السلطان، أو هوى الطغيان.
إن الذي يهبط بمطالبه المشروعة إلى دركات الحدِّ الأدنى فما دون؛ لن يتمكن من الصعود إلى الدرجات العليا في مطالبه، ولن يحصل إلا على الدون مما طلب، بل سيتهاوى في مطالبه إلى دركات أسفل مما يطلب. والذي لا يتطلع إلى المعالي، ولا يصبر على المسير في طريق ذات الشوكة، ويستبدل الذي هو أدنى من حقوقه الدنيا أو الشكلية أو الوهمية؛ بالذي هو خير من الأهداف العليا والجوهرية والحقيقية من الكرامة الإنسانية والعدالة والحرية، لن يستحق أكثر من ما طلب، بل سيطوق بالذل والجمود، ولن يرجع إلا بالغضب الإلهي بدلاً من نفحات الرحمة التي تصاحب حناجر وأنفاس المؤمنين، وسواعد وأقدام المجاهدين، وعلوم ومعارف القادة الربانيين. قال تبارك وتعالى: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ".