فهم القرآن الكريم. . فهمٌ للحياة
|
*كريم الموسوي
من المعلوم ان القرآن الكريم يزود الانسان بنور يستطيع ان يمشي به في ظلمات الارض، وان فضله على كلام البشر كفضل الله جلّ وعلا على خلقه، فهو قادر على ان يمنح الانسان اكثر من حضارة ومدنية، ومع ذلك فاننا لا نزال نعيش الجاهلية المغلفة بظاهر من الدين، ونحاول ان نحيط التخلف بظاهر من التقدم متصورين ان الهزيمة التي منينا بها هي فتح مبين!
ان من العجيب ان تعيش أمة بنيت على اساس القرآن الكريم، واستلهمت قيمها من الوحي في ظل التخلف والتبعية والذل والصغار، وفي هذا المجال علينا ان نبحث باصرار عن حل لهذا التناقض، واجابة لهذا السؤال المهم الخطير وهو : لماذا لايزال المسلمون متخلفين وبين ايديهم كتاب الله عزّ وجلّ الذي يضمن لنا الحضارة السامية التي تنطلق من الارض وتمتد الى الجنة ؟
في الآيات القرآنية نفسها اجابة صريحة على هذا التساؤل؛ ذلك لان القرآن الكريم هو كتاب عظيم ولكن لمن يعرف قدره، وذكر لمن يتذكّر، وعلم لمن يعقل، وهدى لمن يتقي، ونور لمن يوقن. فلا يكفي ان يكون هذا الكتاب بيننا دون ان نكون في مستوى تقبل آياته. فنحن نعلم ان الانسان عندما يريد الانتفاع من شيء ما فان هناك شرطين لهذا الانتفاع: ان يكون هذا الشيء نافعا، وان يكون الانسان نفسه قادرا على الانتفاع منه. فالشمس منيرة ولكن لمن يمتلك عينين بصيرتين، اما الانسان المكفوف البصر فان النور الساطع وظلام الليل هما سواء بالنسبة اليه. وهذه مشكلتنا مع القرآن الكريم وهي اننا لسنا في مستوى الاستفادة منه، فنحن عندما نتلو هذا الكتاب العظيم فاننا لانستطيع ان نستلهم منه ذلك الوعي، وتلك البصيرة والرؤية التي كان اصحاب نبينا الاعظم صلى الله عليه وآله يستوحونها منه، ذلك لان هناك قوالب فكرية ضيقة لاتزال تعشعش في اذهاننا، وعندما نقرأ القرآن الكريم فاننا نبادر مباشرة الى صبّ آياته في تلك القوالب، ومن اجل ذلك جاء التأكيد القرآني على التفكّر والتدبّر، وأن نمشي في آفاق الارض، ومن ثم فان القرآن الكريم يريد منا ان نوسع من قدرتنا على الاستيعاب من خلال التدبر والتفكر. ولذلك فان التفكر يعد من أصعب الأمور على الانسان، فهو مستعد لان يشغل نفسه باعمال عبثية كثيرة يقضي خلالها الساعات الطوال دون ان يكلف نفسه عناء التفكر ولو لساعة واحدة.
ان التفكر السليم هو ان يمتلك الانسان القدرة على ان يميز الافكار الحقة والباطلة، وان يطبق النوع الاول من الافكار على واقعه، ويصوغ لنفسه منها برنامجا للعمل، ولذلك يقول الحديث الشريف: (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة)، أي ان عمر الانسان كله يقع في كفة، وتفكره لساعة واحدة يقع في كفة اخرى.
القرآن وثقافة الحياة
من علائم ودلائل معرفتنا بالقرآن الكريم واستبصارنا به، معرفتنا بانه حقاً (كتاب حياة)، ويمنحنا ثقافة الحياة والثقة بالنفس والايمان بتحقيق النجاح. وعندما نراجع حياتنا، ونتأمل في التربية التي تلقيناها، والظروف المختلفة التي احاطت بنا، نكتشف ان حياتنا كانت في القسم الاغلب منها سلسلة متصلة من الاحباطات سواء في وسط الاسرة أو المدرسة أو المجتمع بصورة عامة. فالآخرون كثيراً ما كانوا يتعاملون معنا باسلوب عنيف قاس، وهكذا الحال بالنسبة الى الحكومات فانها تتعامل مع شعوبها بالارهاب والتهديد، الى درجة ان الواحد منا من النادر ان يسمع من الآخرين كلمة تشجيع وحثّ على الأمل والتفاؤل كأن يقال له: انك خلقت لتكون خليفة الله تعالى في ارضه، أو من اجل ان تكون من اهل الجنة، وانك كريم عند الخالق... فحاول ان تستغل عمرك، وان لا تضيع اوقاتك... وغيرها من المفردات الايجابية، بل نجد العكس من ذلك، فبدلا من ان يتفوه المحيطون بنا بكلمات التشجيع والتكريم، اذا بهم يحشون في آذاننا كلمات اليأس و الاحباط والافكار السلبية.
ومن الطبيعي ان لا يستطيع الواحد منّا ان ينمو و تتفتح مواهبه وابداعاته، وتتفجر قدراته وطاقاته عندما لا يجد من يعلمه ثقافة التوكل على الله تبارك وتعالى، وثقافة الثقة بالنفس والتطلع والطموح، إن فقدان هذه الثقافة هو الذي يجعل الانسان المسلم متراجعاً ومنهزماً من الناحية النفسية، ومتردداً، يحمل عقداً متراكمة ومتشابكة مثل عقدة الشعور بالضعة، والتشاؤم، والجبن، والانهزامية، وسوء الظن بالآخرين وغير ذلك كثير. ولا بان هذه العقد تظهر بسبب سوء التربية، وعدم امتلاك ثقافة الحياة، فكل واحد منا لا يزال يشعر بمرارة الاهانات التي وجهت الى شخصيته منذ صغره. في حين ان الاسلام يأمر بتكريم شخصية الانسان، وعدم توجيه الاهانة اليها حتى وان كان طفلاً صغيراً.
إصلاح النفس أولاً
من هنا ينبغي ان نقوم بوضع برنامجاً لاصلاح انفسنا، لان الانسان على نفسه بصيرة، والله سبحانه وتعالى قد منحه القدرة على ان يميز بين الخطأ والصواب، ويكتشف الطريق الصحيح. وبالطبع فان هذا الاصلاح بين عشية وضحاها، ذلك لان كل صفة سلبية تكمن وراءها مجموعة من العوامل المتجذرة في نفس الانسان، لذا ينبغي بداية تحديد العيوب والصفات السلبية حتى يصار الى وضع برنامج لاصلاح تلكم العيوب.
ومن الاساليب في هذا الطريق؛ ان يبادر الانسان الى اصلاح نفسه وتذكر يوم القيامة واهواله، والاستعاذة بالله تبارك وتعالى من نار جهنم، وتذكر الموت، وان الانسان لا يعلم متى يحل اجله فيصبح رهين الجنادل والتراب، ويتعرض في القبر للعذاب الاليم بسبب سوء اعماله، ولنفترض في هذا المجال - وهو افتراض صحيح - ان الانسان قد اصيب بما يشبه ألم الضرس في قبره فماذا عساه ان يفعل في هذه الحالة؟! ان كان يعيش في الدنيا فان بامكانه معالجة هذا الألم من خلال مراجعة الطبيب، ولكن ماذا سيفعل في القبر؟ ان هذا الألم سيظل يعاني منه بالتأكيد الى يوم القيامة الذي لا يدري كم من السنوات سيستغرق، فان كان الانسان لا يستطيع ان يتحمل هذا الألم البسيط فكيف يستطيع ان يتحمل عذاب نار جهنم ؟!
إذن؛ لنحاول ان نبرمج اوقاتنا من اجل القضاء على الصفات السلبية آخذين بنظر الاعتبار ان من الواجب علينا اولاً ان نحدد ونكتشف تلك الصفات مثل الحسد و الحقد و سوء الظن و الروح السلبية المتشائمة و الكفران بالنعم، وعدم الرضا بما يقسمه الخالق سبحانه، في حين ان على الانسان ان يقنع ويرضى بما يقدره الله له. ففي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (من رضي من الله باليسير من الرزق رضي الله عنه بالقليل من العمل). فاذا أردت ان ييسر الله جلّ جلاله لك أمورك، فعليك أنت بدورك ان ترضى باليسير منه بأن تكون عبداً شكوراً دائماً، وترضى بما يعطيك ربك لكي يرضى هو ايضًا عنك دائماً.
النظرة الإيجابية
وفي هذا المجال علينا ان ننظر الى الامور نظرة ايجابية، فمثلما نرى السلبيات فان علينا ايضا ان نرى الايجابيات، ونرى نعم الله تبارك وتعالى. فما دمنا نعيش في هذه الدنيا فمن الواجب علينا ان نشكر الله في أية حال حتى في حالة نزول المصائب والمحن والابتلاءات علينا، لان الدنيا عبارة عن سلسلة متصلة من الاختبارات والامتحانات.
وبناء على ذلك فان المتعين علينا في البدء وقبل ان نبدأ بصياغة برامجنا الاصلاحية لانفسنا ان نحدد الصفات السلبية ثم نصوغ بعد ذلك وبالاستناد الى هذا التحديد برنامجنا الاصلاحي لكي نستطيع بذلك ان نقضي على جميع الصفات السلبية المذمومة التي تعاني منها انفسنا، لان الانسان هو المسؤول الأول والأخير عن تزكية نفسه، وتطهيرها من شوائب الدنيا وادرانها، وهو وحده الذي يستطيع ان يفعل ذلك؛ فاما أن ينجح في تزكية نفسه فيفوز، واما ان يخفق في ذلك فيكون مصيره الخسران والخيبة كما يقول عزّ من قائل: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس / 9- 10)
|
|