اجواء الحفين في احتفالية الرحيل الأخير
|
*علي حسين يوسف
إذا كان سر الأبداع عند الشاعر يكمن في التجانس بين الموضوع والأحاسيس التي يفرزها انفعاله ومدى تأثره بالموضوع فهذا لأن التجانس هو الذي ينجب الصورة الشعرية التي تحمل الصفات الوراثية لتجربة الشاعر الحقيقية وتخلق استجابة مؤثرة عند المتلقي واذا عرفنا ان الصورة الشعرية هي صورة حسية تثيرها الكلمات المتفاعلة مع العاطفة الأنسانية في سياقها والتي تكون مجازية الى حد ما فأننا نراها في المجموعة الشعرية (احتفالية الرحيل الأخير) للشاعر سلام محمد البناي مشحونة بعواطف وانطباعات تمتد الى مرحلة الطفولة.
ففي قصيدته (طفولة) نجد ان التناص بين الشاعر – الطفل والطفل – والشاعر يتجسد في خصيصة تلقائية وهي التحرر من قيود الواقع وممارسة الآنية بعفوية خارج اسوار التقليد الممل كما نرى في وحي الرجوع الى الماضي بمدلول ومؤشر معبر عند الشاعر دل على خصوبة الخيال عندما طوى المسافة الزمكانية الرمزية المستمدة من عالم ذكرياته مع رمز يدل على البراءة والطفولة وهو (الحمام) فقال (راحل مع الحمام، يتبعني ظلي، اصحو على صراخي، أهندم الفصول، الذكريات، أعاقب الطريق والنعناع، والنهر الذي علمني طلاسم البحار) ويتماهى الشاعر مع ذكرياته في الطفولة ويمتح منها طيب النخلة ليجسدها في صورة يهرب اليها من وجعه كما يهرب الطفل الى دميته يقول: (اهرب من وجعي لنخلة، تحف بي رطباً، كنت ارميها بأحجار، وترميني حنينا، هلوساتي طفولتي، جنوني طفولتي، ماأسعد العالم بي).
ويقدم الشاعر في قصيدته (كم من حرب) صورة تراجيدية نازفة لوطن استنزفته الحروب وواقع مغموس بالأحداث الأليمة ولكنه لايدع الصورة تتلو الأخرى بصورة تلقائية بمجرد مرورها على ذهنه دون ان تتدفق فيها مشاعره كما يضيف النحات لمساته على الحجارة يقول: (ارمي تواريخي وآمالي، ورمحي في الفراغ، قريبة اطعنها هي صورتي، لازلت في رحم التمني، كم حرب انازع، كم موت) ويؤكد الشاعر صلته بهذا الواقع المؤلم فنراه اكثر انشداداً اليه وهو بمسرح احداثه ويعطيها شخوصاً غيابية هي اقرب الى حالة الشاهد السارد يقول: اختلطت ضفائرها بمسبحتي، البارود يجتاح الحواجز، اسمعه، وتمر قربي حربها، اسرجت العويل اعد على اصابعي – حرباً – حرباً).
كما كان لمأساة الطف اثرها في نفس الشاعر فاقتبس منها حادثة عبد الله الرضيع المؤلمة لما لها من اثر عميق في المأساة ونجد ان الشاعر كان متفاعلاً مع هذه المأساة تفاعلاً تاماً ومؤثراً من خلال تعبيره المتماهي مع تياره النفسي والديني يقول: (العصافير مرت من هنا، وتوضأت بدمك الدافئ ولانك لاتعرف اللعب، رحلت بك الطيور، نحو أفق لاينتهي) ومثلما يحقق الشاعر لهذا المشهد التراجيدي عناصرهي مزيج من الحزن الهادئ والمتيافيزيقيا فأنه يتجاوز ذلك الى الحزن الغاضب والألم الصارخ لهذه الطفولة البريئة المذبوحة فتتصاعد نبرة الألم المستبطن داخله لتتفجر ذات الشاعر الكامنة في الموضوع يقول: (ملعونة ينابيع المياه، لانها خاصمت وجنتيك وشفاهك، ملعون هذا الحصى والرمال، ملعونة حوافر الخيول، وانت يابني البراءة، بني الظمأ).
ويتوغل الشاعر في قصيدته (قلق) عميقاً وهو يتتبع مراحل مر بها لكن بلغة حركية اشارية تاركة لخيال القارئ حرية التأويل: (اواجه صمت الطريق، مازلت احلم بحقل الدفء ورعشة الفجر، مازلت احلم، .. المس الوميض المتحرر من السنابل، سوف احتمل اشباح المدينة والأشجار التي تشبهني، والموت الذي يرصدني) كما يترك الشاعر أثراً لايخفى عن بيئته في قصيدته التي حملت عنوان المجموعة (احتفالية الرحيل الأخير) (حقل من رز العنبر في المشخاب، وحبات عنب) ويختلف من هذا المناخ مناخ صوره التي رصد بها الظاهر اكثر من رصده للباطن ليكون مشهداً واقعياً (احلامك الباردة، تعبت من الأمنيات، لم يلاحقها الصيف، الذي تبعثر منها صامتاً، تنام، تشم رائحة الأسماك، وحبة عنب، لونها الغبار) وقد حملت اغلب قصائد هذه المجموعة هذه السمة وهي الالتصاق بالأرض والبيئة. لقد افصح الشاعر في هذه عن مكنونات نفسه واحلامه وعبر عنها بأصالة ناضجة والتزم الوضوح فيما ابداه من مشاعر دينية ووطنية وآراء فكرية وفلسفية.
|
|