القاضي التستري (الشهيد الثالث). . التضحية من أجل العقيدة
|
*إعداد / صادق عبد الجبار
نعرف قيمة العلوم الدينية وثقافة أهل البيت عليهم السلام، عندما نقرأ سيرة حياة من حملوا مشعل هذه العلوم وتفانوا وضحوا من أجل تحصيلها ثم الحفاظ عليها ونشرها للعالم، معتقدين بحق أنها النهج القويم للانسان ليدير حياته بالشكل الصحيح ولا يقع بالأزمات والمشاكل كالتي نشهدها اليوم في بلادنا الاسلامية وفي العالم كله وعلى مختلف الاصعدة.
نعم... هنالك من سجن ومن شُرد ومن قتل بطرق وحشية بشعة ومن غاب في مطامير السجون وقضى نحبه صابراً محتسباً، لكن لم يتراجع قيد أنملة عن طريق الحق او يبيع علمه الذي اكتسبه من أهل البيت عليهم السلام، للسلطان الجائر او لترضية أهواء ومصالح معينة.
من هؤلاء؛ (الشهيد الثالث)، ذلك العالم الكبير والمضحي، وقد اكتسب هذا اللقب من الأدبيات الشيعية، بعد (الشهيد الأول) صاحب كتاب (اللمعة الدمشقية)، وبعد (الشهيد الثاني) صاحب شرح الكتاب القيّم الذي يُعد اليوم أحد مناهج الدراسة في حوزاتنا العلمية.
*الشجرة الطيبة
هو السيد نور الله ضياء الدين القاضي، ابن السيد العلامة شريف الدين، ابن السيد ضياء الدين، يتصل نسبه الشريف بالسيد الجليل أبي الحسن علي المرعشي، المعروف في كتب الرجال والتراجم الشيعية والعاميّة، وهو من سلالة الدوحة الحسينية العلوية الطاهرة، إذ ينتهي نسبه إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
ولد السيد الشهيد (قدس سره الشريف) من أبوين مرعشين عالمِيَن، في بلدة (تُستَر) جنوب غرب ايران مما يعرف اليوم باسم محافظة خوزستان سنة (956هـ)، ولهذا يعرف بـ(التُستَري)، ويقال له: (الشوشتري) أيضاً لكون (تستر) مُعَرّب (شوشتر).
أما لقب: (المرعشي)، فقد جاء نسبةً إلى (مرعش) وهي بلدة تقع بين الشام وتركيا، وكان جدُّه الأعلى، السيد الزاهد الفقيه المحدّث أبو الحسن عليّ، قد سكن تلك البلدة فنُسِب إليها، وكذلك أولاده وأحفاده يُعرفون إلى اليوم بالسادة المرعشية.
والأُسرة المرعشية من الأسر الحسينية العريقة في الدين والتقوى والصلاح والعلم، خرّجت على امتداد قرون متعاقبة عدداً كثيراً من العلماء والمحدّثين والفقهاء، ولهم في تراثنا الشيعي بصمات بارزة، وآثار خالدة، لاسيما آثار الشهيد صاحب الترجمة (قدس سره الشريف) الذي شهدت له آثاره العلمية على تبحره في العلوم الشرعية بأسرها.
*مسيرة طلب العلم
أخذ الشهيد التستري (طاب ثراه) العِلمَ – في أوان شبابه – من علماء بلدته تستر، وأولهم والده السيد شريف الدين، فقرأ عليه الكتب الأربعة والأصول والفقه والكلام، كما أخذ العِلمَ عن كثيرين غير والده، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدينة مشهد المقدسة، وكانت تعج يومذاك بمشاهير العلماء.
وما إن وصل مشهد، وكان عمره في ذلك الوقت ثلاثاً وعشرين سنة، حتى حضر درس المولى عبد الواحد التستري الذي كان من مشاهير أهل الفضل في عصره، ثم أخذ عن غيره من فطاحل العلماء في هذه المدينة المقدسة، ثم انتقل بعد ذلك إلى بلاد الهند في سنة (993هـ)، ولمّا يبلغ الأربعين، بعد أن تأكدّ له أن هذه البلاد لا تُرفع فيها راية لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولمّا وصل بلاد الهند، قرّبه سلطانها (أكبر شاه)، لعلمه الجمّ وأدبه وفضله و ورعه؛ فذاعت شهرته في كل بلاد الهند، ورقي أمره وحسن حاله جاهاً ومالاً ومنالاً حتى نصبه (أكبر شاه) قاضياً ومفتياً في دولته.
*الجهاد في الهند
لقد كان منصب القضاء والإفتاء لا يتسنّمه في تلك البلاد إلا من فاق الناس بعلمه وفقهه، ولهذا فقد تعرّض السيد من جراء هذا المنصب إلى حسد الحاسدين، لاسيما من تلبّس منهم بلباس الفقهاء، ومن تقمّص قميص العلماء. لكن وعلى الرغم من كثرة حاسديه في تلك البلاد ومع شيوع النصب والعداء لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، كان السيد الشهيد مجاهراً بالدعوة إلى التشيع أمام من يطمئن إلى دينه وورعه، حتى قيل عنه: إنه أول من نشر مذهب الحق في بلاد الهند.
ولهذا فقد حيكت الدسائس ضده قدس سره قبل أن ينكشف تشيعه، ثم سعت زمرة من الأوغاد المتزيين بزي العلماء، إلى السلطان بإباحة دمه الشريف، خصوصاً بعد أن سمع بعضهم منه عبارة: (عليه الصلاة والسلام) قالها بحق أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، بعد أن جرى ذكره العطر على لسانه، فاغتنمها حسّاده، وزعموا أنها مختصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم! ورفعوا ذلك إلى السلطان، وقد عَلِمَ أحد كبار علماء الهند المنصفين بهذه الدسيسة والمحاولة القذرة، فكتب إلى سلطان الهند يُعلمه أن علياً عليه السلام هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الجُهّال لا يفقهون ذلك، ولم يعرفوا حق أمير المؤمنين عليه السلام، مع حسدهم لذلك السيد الجليل لما وصل إليه من مكانٍ عالٍ ومنزلةٍ شامخةٍ بين العلماء. فانصرف السلطان عن قتله بعد أن عرف حقيقة الحال وواقعه.
ولم يلبث أولئك النواصب أن استغلوا وفاة السلطان (أكبر شاه) واغتنموا مجيء ابنه (جهانكير شاه التيموري) خلفاً على البلاد، وكان ضعيف الرأي سريع التأثر شديد الغضب، فدسّ أولئك الحساد والأوغاد رجلاً خسيساً منهم إلى السيد الشهيد لمعرفة أخباره والتجسس عليه، كما هو فعل أسيادهم من قبل في التجسس على أعلام الشيعة لأجل القضاء عليهم، وتصفيتهم.
وقد تم لهم ما أرادوا، فلازم ذلك الرجل مجلس السيد القاضي نور الله بصفة طالب علم، إلى أن عرف من طول الملازمة والخدمة أن قاضي الهند وفقيهها هو من أكبر دعاة الحق، مع تمكنه من الإطلاع على مؤلفات السيد لاسيما كتابه الخالد (إحقاق الحق) الذي لم يبق فيه حجة لناصبي عنيد إلا وقد جعلها هشيماً تذروه الرياح.
لقد استكتب الرجل الشقي نسخة من (إحقاق الحق)، وأتى بها إلى السلطان في الوقت الذي أشعلت فيه حساد الشهيد نار غضب جهانكير شاه التيموري ملك البلاد، على السيد الجليل، فأمر (لعنه الله ومن آزره) بقتله بصورة بشعة، إذ جُرّدت ثيابه عن جسده الشريف، ثم ضُرب بالسياط الشائكة حتى تناثر لحم بدنه الشريف الطاهر، وذلك في سنة 1019هـ على أشهر الأقوال.
وهكذا قضى السيد التستري نحبه شهيداً وحيداً فريداً تحيط به زمر الأوغاد، ومحرّفوا الكَلِم عن مواضعه من كل مكان، ثم دفن جثمانه الطاهر في بلدة أكبر آباد بالهند، ومرقده الشريف معروف يزار للتبرّك والتقرب إلى الله تعالى به.
*آثاره العلمية
كان الشهيد القاضي نور الله التستري قدس سره عَلَماً في عصره، ومتكلّماً، وأديباً بارعاً، وبحراً في الفقه والأصول والحديث والعربية، أثنى عليه جميع من ترجم له غاية الثناء، حتى وصفوه بالشهيد الثالث.
ولعل خير ما يدل على علمه وطول باعه في علوم الشريعة الغرّاء كثرة مؤلفاته ومصنفاته، فقد أحصى له السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدس سره) مائة وأربعين مصنفاً ما بين كتاب ورسالة، وذلك في مقدمة تحقيقه لكتابه الخالد (إحقاق الحق).
والحق، إنه لو لم يكن من بين مؤلفاته إلا إحقاق الحق لكفى به شاهداً على غزارة علمه، وتفوّقه على أقرانه لِما فيه من مباحث كلامية وعقائدية وفقهية وتفسيرية راقية قلّما نجدها مجتمعة في كتاب في بابه.
رحم الله السيد الشهيد القاضي نور الله التستري، وسلام عليه يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث مع الشهداء حيّاً.
*المصدر : شبكة النبأ المعلوماتية
|
|