تطور المأتم الحسيني عبر العصور
|
*إعداد / كاظم عبد علي
لم يكن المأتم الحسيني والخطابة كالتي نراها اليوم، وإنما تطور عبر مراحل زمنية حتى وصل إلى حالته المعاصرة، مما يعني أنه يمكن أن يتطور فوق ما هو موجود، وأن له قابلية أكبر في خدمة القضايا الدينية، كما إنه ينبغي أن ينظر إلى محاولات التطوير المختلفة التي تحدث للمأتم الحسيني مع المحافظة على ثوابته على أنها أمر طبيعي.
أدوار مرّ بها المأتم الحسيني
يقسم آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله)، في كتابه (ثورة الحسين في الوجدان الشعبي) الأدوار التي مر بها المأتم الحسيني، إلى ثلاثة أدوار:
الدورالأول: من تاريخ واقعة كربلاء إلى سقوط بغداد على المغول ونهاية الحكم العباسي
ويمكن لنا أن نقسم هذا الدور إلى قسمين: من تاريخ واقعة كربلاء إلى نهاية الغيبة الصغرى، ومنها إلى سقوط بغداد. وجهة التقسيم هي أن الفترة الأولى كانت تحت رعاية مباشرة من قبل المعصومين (ع).
في القسم الأول؛ يمكن لنا ملاحظة أن هناك اهتماما استثنائيا بقضية الحسين (ع) ومأتمه بحيث يمكن القول أن أول راثٍ ومقيم للمأتم كان رسول الله (ص) والإمام علي (ع) فمن الأول ما نقله الطبراني في معجمه الكبير (ج 23): قصة أم سلمة و رسول الله عندما دخل الحسين ولم تشعر به، إلى أن يقول: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء، ثم تناول من ترابها فأراه النبي. وفي (أمالي الصدوق) عن الامام الباقر عليه السلام نفس الرواية بإضافة: فقال: فضعيها عندك فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي.
والإمام علي (ع) كما في مسند أحمد (ج 1): إن عبد الله بن نجي الحضرمي سار مع أمير المؤمنين (ع) فلما وصل إلى محاذاة نينوى صاح: اصبر يا أبا عبد الله بشط الفرات. فقلت وما ذاك قال دخلت على رسول الله (ص) ونقل نفس الحديث السابق، إلى أن قال: هل لك أن أشمك من تربته، فقبض قبضة فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا.
وبعد واقعة كربلاء قام أئمة أهل البيت (ع) أنفسهم بنقل قضاياها بصورة مؤثرة كما فعل ذلك الإمام السجاد والامام الباقر والامام الصادق عليهم السلام، واستنشدوا الشعراء كالكميت وسفيان بن معصب، والسيد الحميري، ودعبل الخزاعي وغيرهم. كما استمعوا إلى المنشدين، وكانوا يطلبون منهم أن يقرؤوا لهم بالرقة كما ينشدون في مجالسهم، بل تشكلت تلك المجالس أيضا وصارت معروفة بدءاً من أيام الامام الصادق (ع). بل أن هذه الفترة شهدت وجود أنواع من إحياء القضية الحسينية، فقد كان هناك النادب والقاص والمنشد، كما يظهر من رواية تتحدث عن زيارة شهر شعبان، وأن عند قبر الحسين كانت توجد هذه الطوائف.
وفي القسم الثاني (ما بعد الغيبة الصغرى)، كانت قد تشكلت دويلات شيعية عديدة: كالبويهيين في بغداد، والحمدانيين في حلب، والفاطميين في مصر. فنشط المأتم الحسيني بعد أن وجد رعاية رسمية، وإعلانا عاما كما هو في عهد معز الدولة البويهي في حوالي 350 هـ، وبعد هذا التاريخ في زمان الفاطميين حيث عرف اسم (الحسينية) كما يتحدث عنها مير علي في كتابه (مختصر تاريخ العرب)، يقول: كان من أفخم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين (الحسينية) وهو بناء فسيح الأرجاء تقام فيه ذكرى مقتل الحسين في كربلاء، قبل أن يلغي كل ذلك صلاح الدين الأيوبي ويتخذ يوم عاشوراء يوم عيد وسرور كما في خطط المقريزي.
وبالرغم من ضغط المتعصبين في هذه الفترة في بغداد، حتى لقد أصدر أحد علمائهم وهو أبو قتيبة البربهاري فتوى بقتل النائحة (خلب) كما كان هناك منشدون معروفون مثل أبو القاسم الشطرنجي وأحمد المزوق، ومثل ذرة النائحة. وبالطبع كان الطابع العام في هذه الفترة هو ذكر الحادثة والشعر فيها، وبرز من شعراء الندبة الناشئ الصغير.
الدور الثاني: من سقوط بغداد في القرن السابع إلى بدايات العصر الحديث
وفي هذه الفترة شهد المأتم الحسيني شيئا من التراجع حيث كان الوضع في بداياته محكوماً بيد المغول فلم يكن بالإمكان أن يكون له نفس الشياع السابق، ثم سيطر الأتراك على بغداد وعامة البلاد المسلمة، وكانوا لا يشجعون هذا التوجه، بل ربما شهدنا في أواخر عهد المستعصم قبل سقوط بغداد أيضا منع المأتم الحسيني.
كما تمت في هذه الفترة كتابة عدد من المقاتل التي تؤرخ قضية كربلاء على يد عدد من العلماء مثل ابن شهرآشوب السروي حيث كتب (مناقب آل أبي طالب) وضمنه قضية كربلاء بشكل مفصل، و (مثير الأحزان) لابن نما الحلي، و (اللهوف في قتلى الطفوف) لابن طاووس الحلّي. وقد اعتمدت هذه الكتب على ما كان قد كُتب سابقا، مثل (مقتل الحسين) للأزدي، و (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج، و(مقتل الحسين للخوارزمي)، و (الإرشاد) للشيخ المفيد.
الدور الثالث: من بدايات العصر الحديث إلى أيامنا هذه .
حيث توجهت الحوزة العلمية إلى أهمية المأتم الحسيني، فكان أن نشأ جيل جديد من خطباء المنبر بالطريقة الحديثة، على أثر توجيه المرجعية الدينية والعلماء المجددين، فصارت هذه الطريقة المعهودة التي يتم فيها التوجيه والإرشاد من خلال المنبر، وتحول المنبر إلى مصدر مهم من مصادر الوعي الديني في المجتمع. وينقلون أن جمعية منتدى النشر التي أسسها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر والسيد محمد تقي الحكيم في مدينة النجف الاشرف، كانت بصدد إنشاء كلية للخطابة الحسينية وهي وإن لم توفق لذلك، إلا أنها أحدثت توجها جديدا في أهمية برمجة هذه الخطابة، وكان من أبرز هذا النتاج الشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله).
هذا الدور لاحظنا فيه من حيث الموضوع تفاعله مع قضايا الأمة والدين، ففي فترات الاستعمار كان صوتاً عالياً ضد المستعمرين، وفي فترات البناء كان عاملاً مساعداً من خلال التوجيهات التربوية والأخلاقية، وبيان فكر أهل البيت، وتحليل التاريخ الإسلامي بنحو صحيح، وتفسير القرآن بشكل جيد، بل تحول هذا المأتم إلى موسوعة فكرية متنوعة على اختلاف ألسنتها ومواضيعها. ومن حيث الاسلوب زادت الدقة التاريخية التي تتناول قضية كربلاء، وزال عنها ما أضيف عليها من الزيادات غير الثابتة.
وقد تقدم المنبر الحسيني خطوة أخرى في طريق التوعية الدينية والثقافية أن تصدّى للتيارات الفكرية الوافدة والمتعارضة مع الدين الاسلامي والنهج المحمدي، فكان العراق الساحة الأبرز والاكثر سخونة في هذا المضمار، حيث سجّل رجال المنبر الحسيني مواقف بطولية وتاريخية لمواجهة هذه التيارات والحفاظ على الدين وتكريسه في المجتمع، وكان في طليعة هؤلاء الخطيب الشهيد عبد الزهراء الكعبي والخطيب المرحوم السيد محمد كاظم القزويني والخطيب المرحوم الشيخ هادي الكربلائي والخطيب المخضرم السيد مرتضى القزويني (حفظه الله). فقد ترك هؤلاء وغيرهم كثير من الخطباء الماضين والموجودين بصمات عميقة في الوجدان الشعبي والثقافة الاجتماعية، بموضوعاتهم وافكارهم الغنية المستقاة من النهضة الحسينية ونهج أهل البيت صلوات الله عليهم، فكان (المقتل الحسيني) الذي ابتكره الشيخ الكعبي وأراد له أن يكون نقطة بداية لمجلس حسيني جديد من نوعه، فذاع صيته في الآفاق.
|
|