قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

تجربة الخوف
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *عبدالكريم العامري
لمعرفة ردود الفعل عند الحيوانات الأهلية تجاه الأشياء؛ سواء الحركات المفاجئة أو الأصوات العالية، نلاحظ انها تنخفض بمقدار احتكاك الحيوان بالأشياء. مثال ذلك الخيول والحمير المستخدمة لجر عربات الغاز والنفط او عربات النقل بين الاحياء السكنية، تكون أقل تأثرا بضجيج السيارات من الخيول التي تعمل في القرى والأرياف والبادية والجبال.
أدرك الباحثون منذ وقت بعيد ان الإنسان يشترك مع الحيوان في التطبّع بالعادات المكتسبة، وان نسبة ردود الفعل عندهما تنخفض تدريجيا تجاه كل جديد وتنعدم تماما حينما يصبح هذا الجديد قديماً، بحيث يتحول الى أمر بديهي.
ان الخوف كان وما يزال من أهم الغرائز لحفظ البقاء، وهو من الدوافع القوية التي لعبت دورا عظيما في تقدم الإنسانية، فلولا الخوف على النفس من الموت ما تطورت الحياة. وكلما اكتشف الإنسان خصائص الأشياء، ازداد معرفة بالمجهول، وذهب خوفه.
لو لاحظنا، الصراع الإنساني ضد المجهولات، لرأينا كفة النصر ترجح فيها لمن يستطيع أن يوفر أكبر مقدار من المعرفة عن خصمه، لأن المعرفة تزيل الخوف، هذا نصف الانتصار. لذلك؛ الناس الذين يعتقدون بأن الأسد لا يخاف، ويعتقد الأسد بنفسه كذلك، هذا المعتقد غالبا يبطله الصياد المستأسد!
وفي أحيان كثيرة، يتوقف سعي الإنسان نحو تحقيق إنجاز ما في الحياة، بسبب الخوف والتردد وصولاً الى انهيار تام للشخصية وموضوعها أو طموحاتها المشروعة. الخوف يبدو للبعض سداً منيعاً، يمثله شخص متضخم إداري أو عسكري أو... يحول بينه وبين الوصول الى تحقيق بعض الامور حتى البسيطة. يتوقف البعض أمام الآخر، قبل الوصول إليه، وتبدأ المخاوف بالفشل من المواجهة أو الاستمرار بالعمل، معتبرا هذه الشخصيات لا يمكن تجاوزها. لها سمات قاسية وقوية، خارجية أو طبائع داخلية، انهم أسود او ذئاب ضارية، تجلس في مناصب تعيق تقدم البشرية.
استغل كبار رجال السياسة والإدارة الى ترويض المواطن (الغلبان)، طريقة الترويض في تدريب الحيوان، وما يجري من تشكيل لسلوك الناس في نظم الاستبداد والطغيان بحيث تخضع لتوقعات السلطة، وتستجيب تبعا لرغباتها، وتتوجه نحو أهدافها المرسومة، هو نوع من الترويض للإنسان يخضع للمبادئ والتقنيات نفسها المتبعة مع الحيوان، مع فارق في المستوى. فترويض الحيوان يتوقف عند سلوكه الحركي لأداء مهام ووظائف مطلوبة، أما ترويض الإنسان في هذه الحالة فيتجاوز السلوك الظاهري - الحركي وصولا الى تشكيل الإدراك - الأفكار – القناعات – العواطف - بحيث تتم عملية امتلاك الإنسان من الداخل والتحكم به.
تتنوع تكنولوجيا تعديل السلوك وضبطه، بين الإغراق الإدراكي الذي يوفر الحضور الكلي للمستبد في وعي الجمهور، وبين آليات التجميل والتفخيم والجذب والانبهار، وبين التأثيم المفرط والإخضاع من الداخل، خصوصا السحب من الرصيد الثقافي والديني الخاص بأخلاق الطاعة. من خلال تكامل فعل هذه المبادئ يتم ترويض السلوك، تتم قمقمة الطاقات وإخضاع الإرادات، ومراقبة الذات والنيات من الداخل، وصولا الى التعلق بالمستبد، فيما يبدو أنه حال من الإعجاب الحقيقي به وبقوته وعظم مكانته. هذا يشكل في مجمله حالات متقدمة من هدر الكيان الإنساني.
هؤلاء ليسو أسوداً بل نكرات، جاءت بهم الأقدار وسوء الطوالع، يخافون من المواطن الأعزل في كل شيء، مع أول ريح لا مكان لهم بين الأسود. مجرد ثباتك أمامهم، تقدمك خطوة باتجاههم، تكفي لأن يترنح البعض منهم او يستعد للفرار. انه أشبه بلعبة مطاطية مملوءة بالهواء، لا يبقى لهم سوى الذكر السيء، تعجب انهم كانوا يصولون ويجولون...! لكن، وقفت بينهم وبين المواطن لقمة العيش.
في مذكرات واحد من العلماء يقول: في افريقيا الوسطى، وقعت على مكان اجتمع فيه عدد من الأسود، كانت تجلس مع أشبالها. هيأت الأسد الذي كان معي وهو عبارة عن لعبة من المطاط مملوءة بالهواء، وضعته في مكان لا تخطئه أبصار الأسود الأصلية.
في البداية أقبل الأسد الكبير، لعله الزعيم، أقترب من الأسد التقليد، لكنه توقف على مسافة أمتار، ثم ربض متحفزا وهو ينظر إليه في حذر. بقي على هذا الحال مقدار عشر دقائق، ثم نهض في بطء شديد، أخذ يقترب من اللعبة بنفس البطء، فكان يقعد وينهض ويتقدم. حافظ على رباطة جأشه فما ارتعد ولا تحرك. اقترب منه الحقيقي اخذ يشمه، لكن في هذه اللحظة هبت ريح، أوقعت التقليد على الأرض، الأسد الآخر ارتد مذعورا عشرين مترا، وأخذ يبتعد كأنه قد أعترف بالهزيمة !
نصبت الأسد المطاط من جديد، ابتعدت الى المكان الذي جعلته للمراقبة، رأيت لبوة تقبل مع أشبالها على الغريب، لعلها كانت تقصد مصالحة المنتصر أو غير ذلك ! رأيت اللبوة تربض بشكل جعلت فيه من جسمها درعا واقيا لأشبالها وتحرك الباقي بشكل مروحة سدت على الأسد المطاط سبل الفرار. انفصلت عن المهاجمين لبوة أخذت تقترب منه بخطوات خفيفة، حتى أصبحت على مسافة متر، جعلت تشمه في حذر شديد، فجأة أطبقت على أحدى أذنيه وعضته، وقع على الأرض وأخذ الهواء يخرج من ثقبه.
لما فرغ الهواء أصبح جلداً من دون عظم ابتعدت اللبوة، ابتعد الأسود فكأنهم كشفوا اللعبة ولم يعد فيها ما يستحق الفضول والخوف.
*باحث اجتماعي