البهلول الكوفي.. الموالي الذي آثر الهرب بِدِينه من ظِلم العباسيين
|
*محمد طاهر محمد
تناقلت الكتب الادبية والتراثية اخبار البهلول بتباين واضح جاء وفقاً لما وصل اليه المؤلف من ابتكار وتحوير في هذه الشخصية، وبما اطلق العنان لمخيلته في وضع قصص واخبار عن البهلول شطّ بعضها كثيراً عن إطار شخصيته وأحواله.
فبعضهم تجاوز المعقول وهو يذكر السبب الحقيقي الذي جعل البهلول (يستجنّ) ويركب قصبته (على عادة المجانين) ويدخل السوق ويصيح: (خلو الطريق...! لايطأكم فرسي)! وبقي على ذلك الى ان مات، فنجد من يقول: ان البهلول وأمثاله جنّوا في تعلّقهم بطاعة الله وخروجهم على مألوف الناس في تعبّدهم وتقشّفهم فكانت بهم لوثة جعلتهم أشبه بالمجانين.
وهذا القول رغم انه احتوى على جزء صغير من الحقيقة إلا انه أخفى الجانب الاكبر منها وهو تنزيه الجانب السلطوي وأزالة تبعاته في حمل هؤلاء على ما فعلوه بأنفسهم، ويجد القارىء اعترافاً من قبل رؤوس السلطة العباسية وأذنابها على انهم كانوا السبب الرئيسي في حمل البهلول وأمثاله على التظاهر بالجنون ونجد ذلك في أقوال عتاة بني العباس فهذا هارون الرشيد عندما يسمع الناس يقولون: جنّ بهلول يقول: ما جنّ، ولكن فرّ بدينه منّا، وقال احد وزرائه عندما لاحظ تظاهُر البهلول بالجنون: ما الفضل إلا فيك وما العقل إلا من عندك وما المجنون إلا من سماك مجنوناً.
فالعبادة والزهد هي من صفات المؤمنين الصالحين، وقد حفل تاريخنا الاسلامي بالكثير منهم ولكننا لم نسمع عن احدهم انه ركب على قصبة في الاسواق وخلفه الصبيان، بل انهم كانوا على أعلى مراتب السكينة والوقار، اذن هناك سبب مهم حمل البهلول على ما فعل من تظاهره بالجنون رغم كونه من المؤمنين الصالحين؟
يستشف القارىء ذلك السبب وهو يتجلى بوضوح من خلال الاخبار المتناثرة في بطون كتب التاريخ عن البهلول وكذلك يستشف معالم شخصيته وجوانبها.
البهلول .. تقيةً
اختلف المؤرخون في تحديد اسم (البهلول) فمنهم من عده اسماً، ومنهم من عده لقباً، خاصة ان معنى كلمة بهلول – لغةً- (هي العقل المجنون الذي يتضاحك ولا يقيم لشيء وزناً، ويتحقق من الجد بالهزل ومن العقل بالجنون لأسباب اجتماعية وسياسية او دينية)، فأولوا شهرة هذا الاسم لصفة البهل التي عرف بها البهلول فغلبت اسمه فعُرف بها. وذكروا له اسم (وهب) و (وهيب)، ولم يقتصر الاختلاف بين المؤرخين على اسمه فقط، بل اختلفوا في اسم أبيه، فذكروا له اسماء: (البهلول بن عمر) و (البهلول بن عمرو)، و(البهلول بن محمد) ومنهم من زاد اسم المغيرة وجعله جداً للبهلول وجعلوا له كنيتي وهب ووهيب، ورغم هذا الاختلاف في أسمه الا ان تعريفه جاء من خلال لقبه (الصيرفي) أو (الصوفي الكوفي).
وليس هناك مصدر يدل على عام ولادته غير ان كل المصادر اتفقت على عام وفاته وهو سنة 190هـ، ورغم ان صاحبنا البهلول الكوفي لم يكن أول بهلول في التاريخ الاسلامي إلا انه حاز شهرة واسعة فاقت من سبقه ومن لحقه من البهاليل حيث يذكر لنا التاريخ ان أول من تظاهر بالجنون هو الطفيل بن حكيم الطائي الذي أسر في وقعة (المفتح) مع القراء فسيروهم الى الحجاج فأراد الحجاج ان يقتل الطفيل فأوهم الطفيل الحجاج بأنه قد ذهب عقله فجعل لا يسأله عن شيء إلا اجابه بخلاف سؤاله فقال الحجاج: ذهب والله عقل الرجل... سواء قتلت على هذا أو قتلت مجنوناً. خلّوا عنه. فكان الراوي وهو ابن عياش (اسماعيل العنشي) عالم الشام ومحدثها في عصره يقول: والله لقد كان طفيل بن حكيم من أعقل الناس وأدهاهم ولكنه أوهم الحجاج أنه قد ذهب عقله فأفلت من يده.
لقد كانت تلك الحادثة هي توطئة لسجل البهاليل في التاريخ فكان تظاهرهم بالجنون (تقية) هو الملاذ من بطش الحكام والجبابرة والمتسلطين وقد عاش اكثر هؤلاء البهاليل ومنهم صاحبنا البهلول في الكوفة التي كانت موطن البهاليل انتزاعاً للمعنى من التباله والتباهل معلقاً بالتقية وحفظ النفس، ويدرك القارىء السبب الحقيقي لتباهل هؤلاء في الكوفة، فالكوفة وعلى مدى تاريخها الطويل كانت معقل الثورات ضد السلطتين الاموية والعباسية وقد عاشت اقسى فتراتها في تلك الدولتين، وضمن الطبيعي ان يأخذ معنى البهلول بعداً (سياسياً - فكرياً) اكثر من بعده (اللغوي) ويذكر لنا التاريخ ان الكثير ممن تسموا بهذا الاسم - بهلول - كانوا على جانب من العلم والزهد والفقه والحكمة منهم بهلول أبو تميم الذي كان محدثاً من رواة ابن بابويه القمي (أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين القمي ت381_991م في كتابه من لا يحضره الفقيه) ومنهم البهلول بن حسان بن سنان التنوخي ت 204 وكان من اهل الانبار معروفاً بزهده وعلمه وكذلك سمي حفيده بهلول وهو ابن اسحق بن بهلول الانباري القاضي المحدث ومنهم ابو القاسم البهلول بن محمد بن احمد بن اسحق ت 380_ 990 والذي كان قاضياً ايضاً وغيرهم.
التضحية لنصرة أهل البيت (ع)
ولنرجع الى صاحبنا الكوفي فقد ذكر (المستوفي) ان أباه عمراً كان عماً للرشيد العباسي واستبعد ذلك السيد محسن الامين في (اعيان الشيعة) وقال لأنه كان كذلك وصف بالهاشمي أو العباسي وغير ذلك لم يذكر المؤلفون شيئاً عن نسبه، وتذكر المصادر ان البهلول كان يعقل ويحسن التصرف مدة ربع قرن وفي هذه المدة كان صيرفياً يتعامل بالمال وأغلب الظن ان هذه المهنة قد ورثها عن ابيه، وقد عدّهُ الطوسي من اصحاب الامام الصادق عليه السلام اما سبب تظاهره بالجنون فقد ذكر السيد محسن الامين في ذلك مصدرين هما (مجالس المؤمنين) للمستوفي الذي يذكر ان الرشيد كان يسعى في قتل الامام الكاظم (ع) ويحتال في ذلك فأرسل الى حملة الفتوى يستفتيهم في أباحة دمه متهماً أياه بأرادة الخروج عليه ومنهم البهلول فخاف من هذا واستشار الكاظم فأمره بأظهار الجنون ليسلَم.
اما المصدر الثاني فهو (روضات الجنات) عن كتاب (غرائب الاخبار) للتستري الذي قال: ان الرشيد اراد ان يولّي رجلاً القضاء فشاور اصحابه فأشاروا عليه الى (بهلول) فأستدعاه وقال له: أعنّا على عملنا هذا قال: بأي شيء أعنك؟ قال: بعمل القضاء قال: أنا لا اصلح لذلك قال: أطبق أهل بغداد انك صالح له فقال: سبحان الله انا اعرف بنفسي منهم فأن كنت في اخباري بأني لا اصلح للقضاء صادقاً فهو ما أقول وان كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح لهذا العمل...! فألحوا عليه وشددوا وقالوا: لا ندعك أو تقبل قال: ان كان ولا بد فأمهلوني الليلة حتى افكر في امري فلما اصبح تجانن وركب قصبة ودخل السوق وكان يقول: خلو الطريق لأيطأكم فرسي...! فقال الناس: جنّ بهلول، لكن هارون قال: كلا؛ ما جنّ ولكن فر بدينه منّا. وبقي على ذلك الى ان مات وسواء صحّت الرواية الاولى أم الثانية فأن كلتيهما تدلان على شيء واحد وهو مقاطعة البهلول للسلطة العباسية وعدها سلطة ظالمة مغتصبة وانتمائه الى انصار اهل البيت (ع) ومحبيهم وتضحيته في مناصرة الحق ومجانبة الباطل.
ويؤكد ذلك الحصري بقوله (كان يستعمل الجنون ستراً على نفسه) كما دلت الاخبار المتناثرة للبهلول في الكتب على عقل وافر وانه ليس فيه شيء من الجنون وانه كان يظهره لمصلحة من المصالح ورغم ان هناك اخباراً موضوعة خالف فيها المؤلفون ما هو عليه حال البهول من رأيه في المذهب وعقيدته في الائمة (ع)، الا ان المصادر الامامية اتفقت على اخلاصه وايمانه وحبه لأهل البيت (ع).
السقوط في وهم الجنون
وهناك حكايات اخرى موضوعة وضعها المؤلفون للسمر والتسلية حتى جاء بعدهم من وصف البهلول بقلة العقل والخبال، غير ان الاخبار الصحيحة الثابتة عن البهلول تثبت العكس حيث انه كان على جانب كبير من وفرة العقل والعلم ويستشف القارىء ذلك من خلال مناظراته التي استشهد فيها بالآيات القرآنية والاحاديث الشريفة واحاديث الائمة (ع) والوقائع التاريخية كما دلت مناظراته ايضاُ على سرعة بديهته في اجاباته السريعة والمفحمة اضافة الى العناصر الثقافية التي يتمتع بها ونظرته لدقائق الاشياء واستخراج الحلول منها.
ومن هذه القصص ما روي انه سُئل البهلول عن رجل مات وخلف أماً وزوجة وبنتاً، فقال للأم الثكل وللأبنة اليتم وللزوجة النواح وما بقي فللعصبة، ولا يخفى على القارىء اشارة البهلول وتعريضه بوراثة الاعمام (العصبة) التي ادعاها بنو العباس ومن اجوبته المفحمة التي ردّ بها كيد من اراد به كيداً ما رواه الطبري في الايضاح في مناظرة طويلة مع عمراً بن عطاء العدوي نقتطع منها هذا الجزء وهو ان عمرو قال للبهلول: مَن إمامك؟ قال إمامي مَن أوجب الرسول له على الخلق الولاء وتكاملت فيه الخيرات وتنزه عن الاخلاق الدنيات ذلك إمامي وامام البريات فقال له العدوي: ويلك اذ لا ترى ان امامك هارون الرشيد فقال البهلول: انت لأي شيء ترى ان امير المؤمنين خال من هذه الصفات والمحامد والله اني لا أظن إلا انك عدو لأمير المؤمنين مخالف له في الباطن، وتظهر الاعتقاد بخلافته وأقسم بالله لو بلغه هذا الخبر لأدبك تأديباً بليغاً...! فضحك محمد بن سليمان أبن عم الرشيد - وكانت هذه المناظرة في مجلسه وهو يومئذ والي البصرة - وقال لعمرو بن عطاء: والله لقد ضيعك بهلول وجعلك لا شيء وأوقعك في الورطة التي اردت ان توقعه فيها.
وهناك قصص اخرى جرت له مع اتباع السلطة والمعاندين والمنحرفين اظهر فيها البهلول الكثير من الثقافة في اجوبته كما حملت شيئاً من الهزء والسخرية منهم.
الزهد وليس التصوّف
كان البهلول زاهداً غاية الزهد وله في ذلك قصص واخبار كثيرة مما حدا ببعض المؤلفين ان ينسب البهلول الى الصوفية رغم انه لم يكن منهم، ومما يؤكد ذلك ان أول من نسب البهلول الى الصوفية هو ابن الجوزي الذي توفي عام 597هـ أي بعد اربعة قرون من وفاة البهلول ولم ينسب أي احد البهلول الى هذه الطائفة طوال هذه القرون الاربعة، ثم ان البهلول لم يكن على آرائهم ومذهبهم وطريقتهم فقد بينّا السبب في أظهار البهلول الى طريقهم بشتى الوسائل فوضعوا له رواة لأخباره من الصوفية ثم جمعوه ببعض هذه الاخبار مع رؤوس الصوفية وتفننوا في وضع الاخبار التي تجمع البهلول مع شيوخ المتصوفة حتى روى عبد السلام شقرون في روض الرياحين قصة للبهلول مع أبي بكر الشبلي الذي ولد سنة 247 هـ مع ان البهلول مات سنة 190هـ كما ذكرنا ولكن رغم كل هذه الموضوعات إلا أنها لا تغير من الحقيقة شيئا وهو ان البهلول كان موالياً لأهل البيت وتلميذاً للامام الصادق (ع) صلباً في عقيدته مضمياً في سبيلها اثر آخرته على دنياه وتجرع مرارة الدنيا لسعادة الآخرة فحشره الله مع أوليائه الصالحين.
*المصادر
1- أعيان الشيعة - السيد محسن الامين
2- مراقد المعارف - محمد حرز الدين
3- تاريخ بغداد - الذيول _ الدمياطي
4- في الادب المقارن العربي- التركي _ حسين مجيب المصري
5- عقلاء المجانين-النيسابوري
6- الكشكول - البهائي
7- الاعلام - الزركلي
8- الارشاد - محمد حسين الاديب
*نقلاً عن موقع (النبأ)
|
|