المراقد المقدسة.. معالم المعرفة والثورة
|
*عباس محمود العطار
تدور في بعض الأوساط الثقافية شبهات مختلفة حول بناء مراقد اهل البيت (ع) وزيارتهم والتسليم عليهم وذلك لبعض الروايات التي لا تنهض قبال الأدلة القاطعة والروايات الصحيحة.
وبعيدا عن السجال الفقهي نتوقف عند رواية نلج من خلالها الى الموضوع بشكل علمي موثق. روى الإمام زين العابدين (ع) عن عمته زينب (ع) عن أم أيمن عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث طويل حول مقتل الإمام الحسين (ع) ومدفنه إلى أن يقول: (ثم يبعث الله قوما من أمتك لا يعرفهم الكفار ولم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية فيوارون أجسامهم ويقيمون رسما لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علما لأهل الحق وسببا للمؤمنين إلى الفوز).
ولا يخفى أن الشبهات المثارة لم تنشأ إلا عن سوء نية وتجاهل لحقائق الأمور.
الدور السياسي للمراقد الشريفة
منذ اللحظة الأولى التي أستشهد فيها الإمام الحسين عليه السلام وضع الحكم الأموي العقبات والموانع متشبثا بكل الوسائل والحجج لمنع الناس من زيارة قبره الشريف، وما ذلك إلا لمعرفته بعظمة صاحب المرقد وعلمه بعمق تأثيره في النفوس التي تستلهم منه القوة والعزم والإصرار على الثورة ضد الظالمين، فمراسم زيارة قبر الحسين (ع) عمل سياسي معارض في عرف بني أمية يجب وقفه بشتى السبل. وسار على نفس النهج العباسيون، وتجلّى ذلك في عهد المتوكل. وتعاقبت الدول والانظمة السياسية واختلفت بين تعظيم هذا القبر الشريف أو هدمه، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره.
وتقف (الوهابية) اليوم في مقدمة الجهات الداعية لهدم قبور أئمة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد سجل لها التاريخ الغارة الوحشية على مدينة كربلاء وتدنيس القبر الشريف ونهب كل خزائنه وتحفه النفيسة، فضلاً عن الاعتداء على الاعراض وقتل الاخيار والابرياء لا لذنب ارتكبوه سوى انهم جاوروا الامام الحسين عليه السلام ليكون لهم وسيلة الى الله تعالى. وما تزال مقبرة البقيع شاهداً ومعلماً واضحاً على الانحراف والاساءة لسيرة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله.
إن هذ النهج لا يمكن فهمه إلا حينما ندرك البعد السياسي الكبير لهذا المرقد، هذا البعد وهذه الاهمية هي التي حولت مدينة الحسين عليه السلام الى منطلق لاحدى ابرز الثورات الشيعية في التاريخ الحديث وهي (ثورة العشرين)، وقد حملت المرجعية الدينية لواء الثورة متمثلة في المرجع الديني الاعلى في حينه الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس سره)، وكانت قيادته لهذه الثورة بالحقيقة تجسيداً للامتداد الطبيعي لثورة الامام الحسين ضد الحكم الاموي الضال. وبفضل هذه الثورة ومكتسباتها تمخضت الدولة العراقية للمرة الاولى بعد قرون من الاستعباد والحرمان ولجم الاستعمار البريطاني الذي كان يتصور العراق مثل الهند بامكانه ان يضمه الى (التاج الملكي) ويستعبده ويجعله مطية لتحقيق مصالحه.
يذكر المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتابه (لكيلا تتنازعوا) إن المرجعية الدينية في كربلاء المقدسة أصرت على ان يتم الاعلان عن تأسيس الدولة العراقية في حرم الامام الكاظم عليه السلام وفي يوم الغدير من عام 1338هـ المصادف لعام 1920، وقد حضر وفد من قبل المرجعية الدينية يترأسه السيد هبة الدين الشهرستاني.
المراقد .. جسر العلاقات بين الشعوب
إن المراقد المقدسة في الجزيرة العربية والعراق وإيران ومصر وسوريا وفلسطين كانت سبباً مباشراً في توثيق عرى الأخوة والمحبة بين الشعوب الإسلامية على اختلاف لغاتها وجنسياتها.
إن تدفق الملايين سنويا لزيارة العتبات المقدسة وتوقف الكثير منهم في المدن المقدسة فترة طويلة بل وهجرتهم أحيانا وإستقرارهم الدائم كان سببا في توثيق أواصر العلاقة بين الشعوب الإسلامية وخلق وحدة تلقائية وتكوين مجتمع إسلامي متسامح يألف بعضه الآخر.
وفي اعقاب الحرب العالمية الأولى سعت الدول الاستعمارية إلى تمزيق الأمة إلى دول وإمارات متنافرة، تتنازع حكوماتها على أتفه الأسباب. إلا أن الإستعمار واجه صعوبة في فصل إرتباط هذه الشعوب عن بعضها، وكان عامل الدين واضحاً جداً بالنسبة لهم في الوقوف سداً منيعاً لتحقيق هذه الغاية الخبيثة. وقد كان للمراقد دور واضح في تجسير العلاقة بين الشعوب الإسلامية على اختلاف قومياتها ومشاربها، ولعلك ترى قوافل الزائرين تنطلق بإتجاه المراقد بمجرد عودة العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بين بلدين يضمان مراقد مقدسة، وغالباً ما أدرج هذا الملف في محاضر وأجندة الإجتماعات واللقاءات السياسية بين المتخاصمين كقضية مهمة.
فالعلاقة التاريخية بين شعبين مسلمين خاضا حربا سابقة وجنحا إلى السلام سرعان ما تعود إلى قوتها ومتانتها بعد طول جفاء وخصام ويكون المرقد الطاهر النبع الصافي الذي يغرف منه الأخوة المتخاصمون أصول الرحمة والسلام والمحبة والأخوة، والمرشح الذي يزيل كل ما علق من خلاف ونزاع وضغينة سببتها سنين الحرب وأعوام النزاع العجاف.
الدور الثقافي
التعليم يشكل أبجدية الثقافة، إذ بدونه يستعصي على الإنسان اقتحام أغلب جوانب الثقافة، وللمراقد دور فاعل في تنشيط حركة التعليم وذلك لأن زيارة المراقد تصنف مرتبتها عند الإمامية دون الواجب وفوق الإستحباب لإصرار أئمة المسلمين على ضرورة ممارستها ولو في أصعب الظروف كما اعتبروا تركها من الجفاء المقيت، وللزيارة طقوس متنوعة أهمها تلاوة الزيارة وهي نصوص منقولة عن المعصوم، وقد حثت الروايات على تلاوتها فعندها يسعى الزائر إلى تعلم القراءة كحد أدنى، والاشارة على الفترة التي كان التعليم مقتصراً على فئة معينة من المجتمع، إذن؛ كان الحثّ على القراءة أولاً، وفهم معاني الزيارة ثانيا، ليستوعب المقصود منها خضوعا لنصّ بعض الزيارات (عارفا بحقك)، والتي من سبلها استيعاب تلك الفضائل والأمور المتضمنة لها الزيارات، وبذلك يتجاوز المرء مرحلة الأمية ويعد في عداد المتعلمين، وعندها يشعر بحلاوتها فيندرج في كسب العلم والمعرفة، وكان لحركة الزيارة الدؤوبة والمتواصلة طوال السنة لاسيما في المناسبات الخاصة وتوافد الزائرين من أقطار العالم كافة، دور في تطور حركة تعليم اللغة العربية إلى جانب لغة الزائر.
ومن حتميات النهضة الفكرية والثقافية الشاملة ولادة الحركة العلمية، وبالفعل فقد شهدت هذه المدينة العريقة والأصيلة حماسة علمية دؤوب ومتنامية قلما تضاهيها مدينة أخرى. فمنذ القرن الأول وفي ظل هجرة كبار الرواة والعلماء إلى جوار الإمام الحسين عليه السلام أخذت المدينة تبني دعائمها العلمية وشهدت القرون التالية ظهورها كمدينة علمية بارزة ومرموقة تبوأت جامعتها العلمية مكانة سامية، ولكنها كانت تخضع دوما لعملية المد والجزر نتيجة الوضع السياسي الذي أصابت آثاره مجمل البقاع المقدسة بشكل عام وهذه المدينة بشكل خاص.
ووضعت نواة هذه النهضة العلمية ببناء المرقد الشريف للإمام الحسين عليه السلام (فازدحم العلماء والرواة وأصحاب القلم والفكر وأحاطوا بالروضة المباركة مستغلين الغرف المحيطة بها والأروقة المشيدة حولها حتى عج الصحن الشريف بطلاب العلم والأساتذة من علماء الدين والباحثين والمؤلفين مما حدا بالسلطان عضد الدولة البويهي إلى تأسيس مدرسة علمية لاستيعاب هذا النشاط العلمي وذلك لأول مرة في تاريخ العراق على الإطلاق وكان ذلك في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري.
ومنذ قرونها الأولى خرّجت جامعة هذه المدينة المقدسة مئات العلماء والمفكرين وعشرات المراجع، وزخرت مكتبتها العلمية بألوف المؤلفات التي صنفها وألفها خريجو هذه الجامعة في شتى صنوف العلم والمعرفة والتي على أثرها ازدهرت حركة الكتابة والخط في عموم المنطقة، وشهدت أرضها المقدسة إنشاء أول مطبعة في العراق.
ويعد القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان العصر الذهبي لمدينة الحسين عليه السلام من بين القرون من الناحية العلمية والفكرية، ولم تقتصر النهضة العلمية في هذه الجامعة على علوم الفقه والحديث والأصول بل شملت العلوم العقلية والنقلية كافة الإسلامية منها والعربية إلى جانب علوم الطبيعة والفلك والطب وغيرها.
|
|