قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

خلل في منطقنا وثقافتنا..!
مراقب
تعد البنية الثقافية، وما تتضمنه من منظومة قيمية (عادات وتقاليد وأعراف ومبادئ وأخلاقيات في العلاقات والعمل)، وما تعكسه من أنماط سلوكية متنوعة، محوراً مهماً ومؤثراً في عملية تقدم المجتمع أو تخلفه. فالبنية الثقافية قد تعد معوقاً أساسياً من معوقات تقدم المجتمع وتنميته، كما يمكنها أن تصبح مقوماً أساسياً وفاعلاً رئيسياً في عملية التقدم والتنمية. إلا أن هذا التأثير يتوقف على مدى تطور هذه البنية الثقافية التي تشكل في مضمونها ومحتواها خصوصية كل مجتمع، ومن ثم قدرتها على التكيف والتوافق والتفاعل مع المتغيرات السريعة التي يشهدها العالم المعاصر.
فالمجتمع الذي تنتشر فيه قيم الانتاج والعمل والابداع والابتكار والحرية والديموقراطية والعدالة والشفافية والحوكمة والمواطنة والادخار (وغيرها من القيم الاجتماعية والثقافية الايجابية الأخرى) يصبح قادراً على تحقيق معدلات من التنمية والتقدم.أما المجتمع الذي تنتشر فيه قيم اللامبالاة، والفردية، والانتهازية، والفساد، والاستهلاك، والتواكل، والأنانية (وغيرها من القيم الاجتماعية السلبية الأخرى)، فتكثر فيه المعوقات التي تمنع تحقيق أي نوع من التقدم والتنمية، مما يؤكد، وبشكل قاطع، على أن هناك علاقة متينة بين ثقافة المجتمع ومدى تقدمه أو تخلفه بالمقارنة بالمجتمعات الأخرى.
فكل مجتمع يحكمه (منطق اجتماعي) معين ومحدد، ونقصد بالمنطق الاجتماعي هو تلك الافكار والثقافة المتأصلة في نفسية الفرد والتي تم غرسها فيه بواسطة التنشئة الاجتماعية التي تعرض لها منذ الصغر، وهي التي تدفع الفرد الى ارتكاب سلوكيات معينة في المواقف الحياتية التي تواجهه يوميا. المنطق الاجتماعي - وبمعنى آخر - هو النظرة الاجتماعية العامة التي تحدد السلوك، وتعرف المواقف، وتوجه الفعل ورد الفعل، بعيداً عن صحة أو خطأ هذا التفسير أو ذاك التعريف أو الفعل ذاته. بيد أنها تعبر عن القيم السلوكية المتفق عليها في المجتمع. وبهذا فإن المجتمعات والشعوب والأمم ترتقي وتنهض كلما كان منطقها الاجتماعي أكثر اعتدالاً وعدالة، والعكس صحيح.
لنقارن بين المنطق الاجتماعي في بلدنا ، واليابان ، مثلا نحو (المهنة او الوظيفة والتوظيف)، ففي اليابان عندما تسأل الفرد: لماذا تريد أن تكون في هذه الوظيفة او تلك المهنة فإن إجابته تتمثل في منطقه الاجتماعي بـ "قدسية" هذه الوظيفة، ومكانتها المهنية العالية داخل المجتمع، كما أنها تمنح الفرد الشعور الايجابي والرضا الذاتي في خدمته لمجتمعه من خلال هذه المهنة. بينما المنطق الاجتماعي لدينا يقول شيئا آخر، كالراتب والارباح والتقاعد و العُطل، والراحة، والمميزات الاخرى. ولنقارن - أيضا - بين منطقنا الاجتماعي في ما يتعلق بحوادث المرور ومنطق أي مجتمع آخر بهذا العالم. فعندما يتجاوز احدنا الاشارة الضوئية الحمراء وبسرعة 160 كيلومتراً في الساعة، ويقتل شخصا آخر، فاننا لا نفسر هذه الجريمة بأنها نتاج تهور للسائق الذي خرق القانون، بقدر ما نفسره على أن الضحية (والملتزم بقواعد المرور).. توفي فقط وفقط لأن هذا هو يومه وقدره وهنا ينقل "منطقنا الاجتماعي" مسؤولية جريمة القتل من (السائق / المجرم) إلى (قدر الضحية) لاغير! حيث لانوازن بوعي بين الايمان المطلوب منا بالقضاء والقدر خيره وشره، وبين ضرورة التحلي بثقافة المسؤولية وتحملها في الحياة، فيغدو الفهم المجتزء لعقيدة القضاء والقدر( وبخلاف مايراد منه) مشجبا جاهزا لثقافة التبرير والانكفاء والتنصل من المسؤولية.
إن تخلف المجتمع أو تقدمه يتوقف على نوعية وطبيعة المنطق الاجتماعي الذي يحكمه، وعليه نقول لمن يريد الإصلاح في هذا المجتمع إن الأمر لن يتحقق من دون (نسف) المنطق الاجتماعي اذا كان يعاني الاعوجاج والتشويه ، وإيجاد منطق أكثر عقلانية وإنسانية .. وعطفا على ذلك أيضا فاننا إذا نظرنا الى الواقع فسنجد أن إشكاليتنا الكبرى تتمثل في التركيز على مجالي السياسة والاقتصاد في البحث عن حل لمشكلاتنا المجتمعية، في الوقت الذي نتجاهل فيه، وبصورة كبيرة، المجال الثقافي الذي يوجه سلوكياتنا اليومية.فإذا كانت السلوكيات السيئة (مثل سيادة قيم الواسطة، والفساد، والتكسب السريع، والتغيب عن العمل وعدم الانتاجية، والتنفيع، وغيرها) أمورا مقبولة على المستوى الثقافي للفرد أو الجماعة، فإن الحلول السياسية أو الاقتصادية لن تجدي في حل هذه المعضلات. وعليه فإن التركيز على إصلاح منظومة السلوك والقيم هو مدخل لإصلاح الخلل العام الذي هو ليس في مؤسساتنا فقط، وإنما ـ أيضا ـ يسكن في ذواتنا نحن، وهذه هي علتنا الحقيقية ..