إضاءة قرآنية لحقيقة الوجود
|
*أنور عزّ الدين
مما أبُتلى به إنسان اليوم وغاص في متاهاته، هو فلسفة الوجود التي وضع بعض أحرفها فلاسفة عاشوا قبل أكثر من ألفي عام، هذه الفلسفة بدلاً من أن تهدي الانسان الى الخالق وتتعرف على حقيقة المخلوق، مرقت بالانسان بعيداً لتقدم له صوراً غامضة وغير دقيقة بل ومشوهة الملامح عن الخالق وعن المخلوق وأيضاً عن الوجود، الامر الذي أوقع الجميع في تناقضات متتالية لا نهاية لها، ولذا نجد الفكر الغربي عاجزاً اليوم، وهو الراعي لهذه الفلسفة، من أن يقدم اطروحة متكاملة ونهائية لهذه القضية. بينما نجد الاسلام وعلى صفحات القرآن الكريم، ومنذ أربعة عشر قرناً أضاء للعالم وللبشرية جمعاء حقيقة الوجود، ولم يدع زاوية مظلمة في هذا المجال إلا وسلّط الضوء عليها في أكثر من آية قرآنية مباركة.
بداية علينا ان نمهد السبيل الى معرفة حقيقة الوجود ببعض الحقائق:
1- اننا لن نعرف معاني الالفاظ التي لم نـزل نستعملها إلاّ عن طريق الايحاءات الخاصة التي اكتشفت استعمال الكلمة بادئ ما سمعناها. فحيـن كنـا صغاراً سمعنا لفظـة (الماء) ورأينا الاشـارة الى مـادة سائلــة فعرفنا ان هذه اللفظة خصصت لهذه المادة الخاصة، وبكثرة الاستعمال تطور مفهوم الماء بوعينا، حتى شمل كل شيء يملك ذات الخصائص الموجودة في هذه المادة.
وعليه ؛ فإن الالفاظ توحي إلينا بالمفاهيم الجزئية التي استُعملت فيها بادئ الأمر، وعن طريقها يستشف الفكر البشري بعض الابعاد الكلية. وهنا تكمن مشكلة الفكر البشري في معرفة الحقائق المطلقة، لانه يستصعب التحليق فوق الاطارات الخاصة التي تكتنف الالفاظ التي تُعد القنطرة الوحيدة الى المعاني المطلقة، لذا على الباحث الفلسفي التخلص من اطارات الألفاظ الجزئية، بجعل اللفظ طريقاً الى المعاني التي لا يمكن بيانها باللفظ ابداً. فعلينا حين نستعمل لفظة (الوجود) ألاّ نتقيد بحرفية الكلمة وجزئيتها، بل نحلّق بعيداً لنتصور حقيقة مطلقة.
2- لفظة (العدم) من الاضافيات التي لا تعرف الا بالنسبة الى شيء آخر، تماماً كلفظة اكبر واصغر، و فوق و تحت، وما اشبه. فينبغي لمن سمع كلمة (العدم) ان يسأل عن الغرض منها، فأي شيء هو العدم؟ لأن عدم الدار يختلف عن عدم البستان وقد يجتمع عدم الدار مع وجود البستان. ومن هنا حين نقول: عدم الوجود لا يعني عدماً مطلقاً بل عدماً معيناً فقط.
3- إن انسجام الحقائق بعضها مع بعض وانسجام النفس معها بالاطمئنان والارتياح، لهو أحد المقاييس الثابتة للإنسان التي يستكشف بها حقيقة الاشياء. فمثلاً؛ حينما تردد (نيوتن) في النظريات الفلكية ورأى وجود مشاكل علمية كثيرة في (النظرية البطليموسية) القائمة على اساس دوران الشمس، تنبّه الى عدم انسجام الحقائق مع هذا المبدأ، فوضع (نظرية دوران الارض) فتوصل على اساسها لحل المشاكل العلمية، وحصل انسجام تام بينها وبين سائر الحقائق، فتأكد عقم نظرية (بطليموس)، وتأكد من صحّة نظريته.
وكذلك يكتشف البشر كثيراً من الحقائق حينما يتردد فيها عند اول نظرة لعدم انسجام هذه الحقيقة مع سائر الحقائق التي يعرفها الفرد من قبل، وبالبديهة يعرف ان مجرد التعارض بينهما يعني عدم صحة إحداهمـا.
وبعد هذه النقاط لابد ان نعرف حقيقة هامة؛ هي ان الوجود شيء والموجود شيء آخر. فالموجود هو ما نراه ونلمسه، مثل القلم والدفتر، فكل منهما موجود، اما الوجود فهي الحقيقة التي تجعل القلم موجوداً والدفتر موجوداً أيضاً وهي مشتركة بينهما.
وإذا كان الأصل في الاشياء ماهيتها وحدودها وانها لم تكن ثم كانت، لابد ان نفترض الوجود حقيقة وراء حقائق الموجودات، فهي نبعها الفياض الذي يعطيها الاستمرارية في التحقق والظهور.
والآن لنأتِ على الأدلة التي تهدينا الى طبيعة الوجود، والوسيلة الوحيدة الى ذلك هو اثارة العقل، وليست الغاية من سرد الأدلة سوى نوع من الاثارة.
الدليل الأول: ان كل موجود يطرأ عليه الوجود بشهادة تحدده بالعدم. فمن الذرة الصغيرة حتى المجرة الكبيرة، يشكل العدم جزءاً من حقيقته، فمثلاً يشغل مساحة الذرة فقط بنسبة واحد في .../.../1، اما الباقي فهو عدم، وحجم المجرات الذي لا يحدده الخيال، يمكن ان يصغر لو نقيناها مما نشاهدها فيها من العدم الى بضعة عشرة مرات من حجم الشمس فقط.
وهذا التشابك يهدينا الى ان طبيعة الأشياء التي نراها ليست هي الوجود، بل الوجود شيء والموجود به شيء آخر، ولعلنا - لو تقدم بنا العلم- عرفنا ان وجود الموجودات لايعدو ان يكون بعض مراتب الوجود نفسه.
الدليل الثاني: الصلة بين العدم والوجود، فهل الكون حادث؟ نعم؛ لانه متطور، ولأن القانون العلمي اثبت وجود عمر محدد للكون، وانه لا يمكن ان تسير حرارة الكون من الصفر الى الواحد بل انها تسير بصورة عكسية تماماً من الطاقة الى (لا طاقة)، حتى تنتهي طاقات الكون جميعاً. وبعد...
ان حدوث الكون دليل على ان ذاته لم يكن موجوداً، وهل يمكن ان يكون شيء ذاته الوجود ويكون معدوماً في لحظة من الزمن. أفلا يكون هذا تناقضاً ظاهراً؟
ان التفسير الوحيد لوجود الكون بعد عدمه يكمن في القول بعدم انقلاب الذات من العدم الى الوجود، بل اعطاء نور الوجود للعدم عطاءً مستمراً، بحيث لو توقف العطاء تحولت الموجودات الى العدم. وهذا التفسير يهدينا الى الفرق الكبير بين الوجود كحقيقة ثابتة ظاهرة بذاتها، والموجود كظل متطور ظاهر بغيره.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة سبّحت اسم اللـه سبحانه وتعالى، كما ابتدأت سور الكتاب باسمه العظيم، وحين نسأل عن معنى الاسم في اللغة، نجد انه العلامة والدليل الى شيء ما، ثم حين نعود الى القرآن الحكيم نجد ان هذا الاسم كان سبباً في خلق الاشياء، من أرض وسماء، ونجد في آية اخرى: " بِسْمِ اللَّهِ مَجْريهَا وَمُرْسَاهَا" (هود /41).
ان التدبر في مجموع هذه الآيات يهدينا الى ان اسم اللـه المقدس، هو النور الذي خلق به السموات والارضين، وهو الذي سميناه الوجود، دون ان نستطيع تحديده لسعته وشدة حقانيته المانعة عن احاطتنا به، فهو ذاته النور الذي اشرقت به الأرض فقال اللـه: "وَأَشْرَقَتِ الاَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا" (الزمر /69).
وهو كذلك النور الإلهي الذي مثله القرآن بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري فقال تعالى: "اللـه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ" (النور /35).
وكذلك هو العرش ( ) الذي استوى عليه اللـه سبحانه، الذي قال: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه /5)، وقال تعالى: "اللـه لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" (النمل /26). وهو المثل الأعلى الذي قال عنه القرآن: "وَللـه الْمَثَلُ الاَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيرُ الْحَكِيمُ" (النحل /60)، وهو ايضاً: جوهر اسماء اللـه الحسنـى التي قـال عنها الكتاب المجيد: "وَللـه الاَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" (الاعراف /180)، وقال تعالى: "اللـه لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاَسْمَاءُ الْحُسْنَى" (طه /8)، وهو ايضاً الاسم الذي يدعو العباد ربهم به حين يجأرون. ( )
ان تذكرة القرآن بحقيقة هذا الاسم الذي لا يُهتدى اليه دون المزيد من اثارة العقل باتجاه سماته وآياته، لا تنحصر بهذه الآيات، اذ نجد في اكثر آيات القرآن توجيهاً صريحاً او مستبطناً اليه. فمن كل آية في القرآن يشع نور هذه الحقيقة: ان الخلق بحاجة مستمرة الى الخالق الذي امسك السموات والارض ان تزولا، ولئن زالتا ان امسكهما من أحد من بعده. قال اللـه سبحانه: "إِنَّ اللـه يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً" (فاطر /41).
واللـه سبحانه وراء كل علم وعمل فلولا دوام الحاجة إليه لما كان كل شيء فقيراً إليه، ولما نسب كل فعل الى قدرته بصورة مباشرة. بلى ان نوره هو الذي يمسك الكائنات ان تزول زوالاً، فهو الذي يعطيها الوجود فيضاً بعد فيض وخلقاً بعد خلق. لنقرأ الآية الكريمة: "إِنَّ اللـه فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللـه فَاَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ اِلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمآءِ مَآءً فَاَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَاَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِن أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الانعام/95-99)
وكذلك القرآن كله مذكر بهذا الاسم العظيم الذي لو تنبه اليه الفرد، عرف ضلالة اولئك المتصوفة، الذين لم يفقهوا حقيقة الوجود، وانه نور مقدس من اللـه يعطي الاشياء خلقها، ويمسكها ان تزول.
**************
هامش:
(1) في تفسير لكلمة العرش قال الامام علي بن الحسين عليه السلام: هو نور الانوار ومنه ضوء النهار. واضاف: ولو أحسّ مما فوقه ما قام لذلك طرفة عين بينه وبين الاحساس حجب الجبروت والكبرياء والعظمة والقدس والرحمة ثم العلم، وليس وراء هذا مقال. [بحار الأنوار/ ج55/ ص25]
(2) في الدعاء المأثور عن النبي والمقتبس من وحي القرآن الحكيم: اللـهم اني أسألك باسمك الذي إذا ذكرت به تزعزعت منه السموات وانشقت منه الارض وتقطعت منه السحاب، وتصدعت منه الجبال وبالاسم الذي وضع على الجنة فأزلفت وعلى الجحيم فسعرت، وعلى النار فتوقدت وعلى السماء فاستقلت وقامت بلا عمد، وبالاسم الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وإسمك المكتوب على اجنحة الكروبيين.
|
|