مسلم بن عقيل (ع)
مجاهد من آل أبي طالب
|
*ياسر الربيعي
ما إن تذكر شجرة آل أبي طالب إلا وذكرت كل خصال الفضائل والسجايا الحميدة وكذلك الحال بالنسبة لبقية أغصانها، فقد أمتازوا بالحكمة والأخلاق والبلاغة والأدب والشجاعة والتضحية حتى إن الواحد منهم كان كأمة واحدة في المكارم والمحاسن؛ فإنهم اعتادوا على تربية وليدهم على ماتدفقت به أوعيتهم، فلا يشب الصغير إلا وقد امتلأ بفضائل المشايخ نتيجة لأهتمامهم بتربية ناشئتهم وحرصاً منهم على أن ينتجوا رجالاً قدوة في المجتمع. فلا يكبر صغيرهم إلا وهو يعتلي صهوة الخيل ومنبر الخطابة فيسير مع الركب ذكره ومع الريح نشره لكي يقتدي به الآخرون ويقتفون أثره في الأخلاق. ومن جملة ما كانوا يهتمون به هو اختيار الأم الصاحلة لأولادهم لأنها الوعاء الذي يشرب منه الوليد صفاته الوراثية والمكتسبة وخير دليل على ذلك هو اختيار أمير المؤمنين (ع) لأم البنين بعد أن كلف أخاه عقيل باختيار إمرأة ذات حسب ونسب وقد ولدتها فحول العرب، وقد كان عقيل ملماً بمعرفة أنساب العرب وهو الذي وفق في اختيار أم البنبن لأمير المؤمنين (ع) وقد وفق أيضاً باختيار زوجته هو لأولاده لتنجب أولاداً كانوا بحق المدرسة الهاشمية مستلهمين دروسهم من نهج أهل النبي الأعظم (ص) ومدرسة أهل البيت (ع)، كيف لا، وهم الذين عاصروا هذا النهج العظيم؟ وكان مصداق هذه التربية الصالحة وقفتهم بمشهد الطف يوم التطمت أمواج الضلال وتحزبت عصب الشرك على سيد شباب أهل الجنة، فكتبوا بدمائهم الزكية أسطراً ثورية على جبهة الدهر تقرؤها الأجيال المتعاقبة ويتعرفون منها على مناهج موتة العز، فبها ضمائرهم تردد هتاف الإمام الحسين (ع) (والحياة مع الظالمين إلا برما).
ومن أغصان هذه الشجرة المباركة.. مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) الذي اصبح خالداً بدمائه الزكية دفاعاً عن الاسلام وعن إمام زمانه الإمام الحسين (عليه السلام) وكل ذلك بفضل التربية الحسنة والأصل الطاهر والأم التي صاغت هذه الشخصية ليكون مؤهلاً في انتمائه لمدرسة العترة الطاهرة فيتخرج منها وهو حامل روحه على راحتيه ليلقي بها دفاعاً عن عقيدته؛ فظهر مسلم بين هذه وتلك وضّاءً للحق وشخصية بارزة للدين والهدى لحمل اعباء النيابة الخاصة عن إمام زمانه. ولهذا فقد اختاره سيد الشهداء (عليه السلام) من بين ذويه وحشده الأطايب، وليس هذا اعتباطاً فقد كان ما يتلقاه مسلم من أكابر قومه في مناوئة البيت الأموي أضداد الفضيلة وأعداء الدين وحضنة الجاهلية الأولى وناشري ألوية الوثنية والدعاة الى كل رذيلة بأعمالهم وأقوالهم، ولهذا كانت تعد تلك المباينة من الهاشميين لهم من أسمى مناقبهم فبطبع الحال كان (داعية السبط الشهيد (ع) وارثاً لهذه الظاهرة بأتم الظاهرة وبأتم ما لها من معنى).
وبعد أن اجتمعت به كل هذه الصفات كان لا بد وإن يكون له دور كبير يتناسب مع حجم إيمانه، فكلفه سيد الشهداء (عليه السلام) بأن يكون سفيراً له الى الكوفة؛ فخرج من مكة للنصف من شهر رمضان على طريق المدينة والذي نزل فيها وصلى في مسجد الرسول وزار بقعته المقدسة وودعه الوداع الأخير وجدد هنالك المواثيق المؤكدة على ما انطوت عليه أضالعه من التضحية والمفاداة دون إحدى الحسنيين إما الحياة السعيدة، أو الخلود بالذكر المؤبد بمرضاة الله رب العالمين ثم ودع أهله وسافر الى العراق ومعه قيس بن مصهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي مع دليلين استأجرهما من قيس يدلانه على الطريق ولكن الدليلين قد ماتا عطشاً وبقي مسلم لوحده.
وكتب مسلم الى الإمام الحسين (عليه السلام) مع رسول أستأجره يعرفه خبر الدليلين وإنه ينتظر أمره وهذا الأمر يعكس مدى تقوى مسلم و ورعه في أمر الدين حيث لا يتخطى رأي حجة زمانه في حله ومرتحله وإنما كتب اليه بهذه الحادثة لأنه احتمل أن يكون هذا الحادث يغير رأي الإمام (عليه السلام) فتوقف عن المسير ليرى ما عنده ويكون على بصيرة في إنفاذ أمره؛ فما كان من الإمام إلا أن أمره بالمسيرالى مقصده تعريفاً بأن هذه الأحوال لا تغير ما عزم عليه من إجابة طلب الكوفيين الذين ملأوا الأجواء هتافاً بأنهم لا إمام لهم غيره ينتظرونه ليقيم ودهم فلو لم يجبهم تكون لهم الحجة عليه يوم نصب الموازين، والإمام المنصوب من قبل الله تعالى لا يعمل عملاً يسبب اللوم عليه، وليت الكوفيين قد طابقت أقوالهم أفعالهم ولكنهم خذلوا مسلماً وإمام زمانهم، وقد أدركوا خطأهم الفاحش بعد استشهاد مسلم وسيد الشهداء (عليه السلام) فما كان بد لهم إلا أن اشتعلت نار الملامة في صدورهم والتي أوقدها الثوار الأبطال من أمثال سليمان بن صرد الخزاعي ومعه التوابين والمختار (رضوان الله عليه) فأعقبت خذلانهم حرقة كانت سبباً في ثورات امتدت بعد حادثة كربلاء.
|
|