(المفيد) .. ريادة العلم في الزمن الصعب
|
*علي جواد
إن ذاكرة التاريخ تحفل برجال ليس من السهل المرور على أسمائهم من دون توقف لما تحمله شخصياتهم من فاعلية وحضور على المسار التاريخي فكانوا الغائبين الحاضرين في ذاكرة التاريخ والأجيال بل إن تكّون التاريخ وحضوره في ذاكرتنا وتشكله في أذهاننا ينسب الكثير منه إلى هؤلاء الرجال فكانوا المسهمين المهمين في تشكيل وعينا الديني والاخلاقي و أحد عمالقة هؤلاء الرجال الشيخ المفيد (رضوان الله عليه).
*النشأة*
ولد الشيخ المفيد في مثل هذه الأيام من شهر ذي القعدة سنة 336 للهجرة، وينقل صاحب (أعيان الشيعة) أن الشيخ المفيد ترعرع في كنف والده الذي لم نعرف من أخباره سوى كونه معلماً بواسط ولذلك كان يكنى ولده بـ(ابن المعلم).
وما أن تجاوز المفيد سني الطفولة وأتقن مبادئ القراءة والكتابة حتى انحدر به أبوه وهو صبي إلى بغداد حاضرة العلم ومهوى أفئدة المتعلمين فسارع إلى حضور مجلس درس الشيخ أبي عبد الله الحسين بن علي المعروف بالجعل بمنزله بدرب رباح ثم قرأ على أبي ياسر غلام أبي الجيش بباب خراسان وفي أثناء قراءته على أبي ياسر اقترح عليه أستاذه هذا أن يكثر التردد على مجلس المتكلم الشهيد علي بن عيسى الرماني المعتزلي ففعل.
ويحدثنا المفيد في زيارته الأولى للرماني فيقول: دخلت عليه والمجلس غاص بأهله وقعدت حيث انتهى بي المجلس فلما خفّ الناس قربت منه فدخل عليه داخل وطال الحديث بينهما فقال الرجل لعلي بن عيسى ما تقول في يوم الغدير والغار؟ فقال أما خبر الغار فدراية وأما خبر الغدير فرواية والدراية لا توجب ما توجبه الرواية وانصرف، فقلت أيها الشيخ مسألة.. قال: هات مسألتك.. قلت ما تقول في من قاتل الإمام العادل؟ قال يكون كافراً ثم استدرك فقال فاسق! فقلت ما تقول في أمير المؤمنين علي أبي طالب (ع)؟ قال: إمام، فقلت ما تقول في يوم الجمل وطلحة والزبير، فقال تابا فقلت أما خبر الجمل فدراية وأما خبر التوبة فرواية، فقال كنت حاضراً وقد سألني البصري فقلت نعم، رواية برواية ودراية بدراية، فقال بن عيسى: بمن تُعرف؟ فقلت: اعرف بابن المعلم، واقرأ على الشيخ أبي عبد الله الجعل، فقال موضعك.. ودخل منزله وخرج ومعه ورقة قد كتبها والصقها وقال لي: أوصل هذه الرقعة إلى أبي عبد الله فجئت بها إليه فقرأها، ولم يزل يضحك بينه وبين نفسه، ثم قال: ماذا جرى لك في مجلسه، فقد وصاني بك ولقّبك (المفيد) فذكرت المجلس بقصته.
وهكذا بدأ هذا الصبي الطموح بتسلق سُلّم العلم والمعرفة ويزاحم بركبتيه الصغيرتين محافل العلماء وعمالقة العقول في عصره ليصبح رمزاً من رموز العلماء الذين تميزوا ببصماتهم العلمية على التراث الإسلامي.
ومما نستفيد عبرةً من هذه القصة، كيف إن شيخنا المفيد شقّ طريق العلم والمعرفة من أوساط علماء أهل العامة، حيث لم يكن في بغداد آنذاك حوزة علمية، إلا القليل من علماء الشيعة. وعندما نستذكر الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) وفضله الكبير في تأسيس أول حوزة علمية لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) في بغداد، فانه بالحقيقة الفضل يعود الى استاذه المبجّل الشيخ المفيد الذي خاض عباب العلوم الدينية وبذل الجهود المضنية ليل نهار، حتى استخرج الدرر الثمينة من العلوم والمعارف، لتكون مناراً لنا ولجميع المسلمين، بل جميع الانسانية.
*العلم*
وعليه فان التاريخ يطلعنا على أن الشيخ المفيد كان قد بذل جهوداً كبيرةً في طلب العلم واتصاله بالعلماء وعدم تضييع أي فرصة كان يراها تحقق له سبقاً علمياً ومعرفياً..
ينقل صاحب (أعيان الشيعة) في المجلد التاسع ويقول: ولتوضيح مدى الجهود التي بذلها المفيد في سبيل التفقه والتعلم نورد فيما يأتي ثبتاً بأسماء الرجال الذين قرأ عليهم واتصل بهم واتصلوا به ويذكر العلامة الأمين طائفة من الأسماء وصلت إلى ستة وخمسين اسماً ثم يذكر العلامة تلامذته المبرزين أمثال الشريف الرضي محمد بن الحسين المتوفى سنة406هـ والشريف المرتضى علي بن الحسين المتوفى سنة 436هـ وسالار بن عبد العزيز الديلمي المتوفى سنة 448هـ ومحمد بن علي الكراجكي المتوفى سنة 449هـ واحمد بن علي النجاشي المتوفى سنة 450هـ والشيخ الطوسي محمد بن الحسن المتوفى سنة460هـ ومحمد بن الحسن بن حمزة الجعفري المتوفى سنة 463هـ وكثيرين غيرهم.
أما مصنفاته فكان (رضوان الله عليه) كثير التصنيف حتى أن صاحب نقد الرجال يقول: كان فقيهاً متقدماً فيه حسن الخاطر دقيق الفطنة حاضر الجواب قريب من مأتي مصنف كبار وصغار.
ونحن نورد بعض المصنفات الكثيرة التي ذكرها صاحب اعيان الشيعة والتي تجاوزت الـ195 مصنفاً في الفقه والكلام والتاريخ والتفسير والحديث وغيرها من العلوم ومنها المقنعة في الفقه، الإيضاح في الإمامة، الارشاد، العيون والمحاسن، نقض المروانية، نقض فضيلة المعتزلة، المسائل العشر في الغيبة، نكاح الكتابيات، أصول الفقه، وقعة الجمل، النكت في مقدمات الأصول، إيمان أبي طالب، مسائل أهل الخلاف، أحكام النساء، رسالة إلى أهل التقليد، الكلام في الإنسان، وجوه إعجاز القرآن، الكلام في المعدوم، أوائل المقالات، في فضل القرآن، نقض الإمامة على ابن جعفر ابن حرب، جوابات الفيلسوف في الأشرار، البيان في تأليف القرآن،الكلام في الخبر المختلف بغير اثر، مسائل الزيدية، تفضيل الأئمة على الملائكة، حدوث القرآن، الجوابات في خروج المهدي، وكتب ومصنفات أخرى.
*مكانته*
كان الشيخ المفيد ذا مكانة مرموقة بين العلماء وذا دور بارز في المجامع العلمية وكانت شخصيته وشهرته وصلت إلى المخالف والمؤالف بحيث قلما تجد من لم يذكره من المؤرخين والمترجمين، وساق لفيف من المؤرخين خلال الترجمة كلمات الاطراء وجمل الثناء بما لا مزيد عليه وانساق لفيف آخر منهم من وحي عواطفهم فاندفعت اقلامهم نحو الطعن والشتم والتشهير، و وصف المؤرخون حياته الخاصة وصفاته الشخصية فذكروا من جملة ما ذكروا منه: كان شيخاً ربعة نحيفاً اسمر كثير الصدقات عظيم الخشوع كثير الصلاة والصوم حسن اللباس كثير التقشف والتخشع والاكباب على طلب العلم وكان لا ينام من الليل إلا هجعة ثم يقوم يصلي أو يطالع أو يتلو القرآن.
وذكرت المصادر الكثير الكثير من الأقوال والشهادات بحق الشيخ المفيد، فقد كان الشيخ المفيد من علماء القرن الثالث الهجري مع بضع سنوات من القرن الرابع الهجري وحيث كانت أوضاع المسلمين في ذلك الوقت تمر في انتكاسات وفتن ومشاكل سياسية واجتماعية كان موقف الشيخ المفيد إزاء هذه التطورات موقف المدافع عن حريم الإسلام ومفاهيمه وقيمه وكان معروفاً بحنكته على المناظرة حتى قال عنه أبو بكر الباقلاني: (إن لك من كل قِدْر غرفة)! بعد ما افحمه الشيخ المفيد في مناظرة جرت بينهما فكان خبيراً بالكلام دقيقاً في مسائله قوياً ببرهانه فكان حرياً من العلماء أن يشيدوا به في مصنفاتهم.
ويقول الشيخ النجاشي: شيخنا واستاذنا رضي الله عنه وفضله اشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ثم عدد له نحواً من ثمانية عشر مصنفاً في الفقه والاصول والكلام وغيرها.
وقال العلامة الحلي في حقه كما جاء عن صاحب الأعيان: من أجلّ مشايخ الشيعة ورئيسهم واستاذهم وكل من تأخر عنه استفاد منه وفضله اشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية اوثق أهل زمانه واعلمهم انتهت رئاسة الامامية إليه في وقته وكان حسن الخاطر دقيق الفطنة حاضر الجواب له قريب من مائتي مصنف كبار وصغار.
وقال عنه أبو حيان التوحيدي: وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل صبور على الخصم كثير الحيلة ضنين السر جميل العلانية ورغم كراهية بعض العلماء له إلا انه لم يمنعهم ذلك من الثناء عليه والاشادة به، فهذا الخطيب البغدادي المعروف بعدائه للامامية يقول في حق الشيخ المفيد (شيخ الرافضة والمتعلم على مذهبهم وصنف كتباً كثيرة).
وقبل أن نختم هذا المقال التجميعي، نشير الى قضية تهمنا جميعاً، وهي اننا طالما نشيد ونهيب بشخصياتنا ورموزنا فيما نحن على فاصلة بعيدة جداً عنهم، ونراهم كما نرى الشمس، والحال هو ليس كذلك، فالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والعلامة الحلّي ومن سبقهم وغيرهم من عباقرة العلم والمعرفة، لم يكونوا سوى أناس عاديين، ميزتهم عن الآخرين التحدي والصبر والتوكل على الله تعالى، وهذا ما يقدر عليه أي انسان مسلم غيور، طبعاً إذا ما أراد ذلك إرادةً حقيقية وليست لفظية.
|
|