(الليل) في القرآن الكريم
|
*ضياء العيداني
اذا ابعدنا النظر الى اغوار هذا الكون ونظرنا إليه من خلال مركبة فضائية خارج الأرض نجد ان الليل يغشى الكرة الارضية من كل جانب ماعدا طبقة رقيقة هي طبقة النهار، واذا كان من الصعب تصوير فيلماً دقيقاً عن حركة الأرض وتداخل النهار في الليل وتداخل الليل في النهار فإن القرآن الكريم صوّر لنا صوراً بدقة تامة وبكلمات قليلة وكيف أن الليل يلحق النهار باستمرار قال تعالى: "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً" الأعراف54، وقوله تعالى "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ" الحج61، وقوله: "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ" الزمر5، وغيرها من الآيات التي أجادت التصوير لظاهرة الليل والنهار.
تقديم الليل على النهار والقسم به
لم يقسم ربنا سبحانه وتعالى بشيء إلا وله من العظمة الشيء الكبير، كما أن آيات القرآن الكريم وكلمات تامة المعنى والبلاغة فلم تُقدَم كلمة على كلمة إلا وهناك علّة في التقديم أهمها أهمية الكلمة المتقدمة، والقسم: يعني ربط حقيقتين مع بعضهما، وقد يكون الربط بينهما مجهولاً عند الكثير ومعلوماً عند البعض، فالقسم في القرآن الكريم هو لبيان الرابطة الوثيقة الموجودة بين المقسم به والمقسَم عليه، فحينما يقول القرآن الكريم: "والشمس وضحاها والقمر اذا تلاها والنهار اذا جلّاها والليل اذا يغشاها والسماء وما بناها والارض وما طحاها ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها"، وبعد هذا القسم الطويل يقول: "قد أفلح من زكاها"، فهناك علاقة بين هذه الظواهر الكونية وبين هذه النفس؟ وهذه العلاقة تدل ان الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون من اجل الانسان، وغيرها من الآيات التي يقسم بها ربنا سبحانه وتعالى في الليل كقوله: "والليل اذا أدبر"، "والليل اذا يغشى" ..الخ، ومن هنا نعلم بأن هناك علاقة بين مايقسم به ربنا تعالى وما يقسم عليه، ثم أن القسم بهذه الظواهر الطبيعية من قبل الله تعالى تنبيها الى اهميتها وعظمتها وان علينا ان ندرس تحولاتها وندرس طبيعتها.
ثم إذا تتبعنا كلمة الليل نجدها متقدمة على كلمة النهار، كما في قوله تعالى "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (الحديد/ 6)، وقوله: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ" (آل عمران/ 190)، وقوله: "وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" (فصلت/ 37)، وهناك آيات أخرى في هذا المجال.
هذا التقديم لم يكن محض صدفة، فعندما يقدم الله تعالى لفظ السارق على السارقة في قوله: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" المائدة38، لأن السرقة في الذكور أكثر، وقدم الزانية على الزاني في قوله: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" (النور/ 2)، لأن الزنا فيهن أكثر والأصل فيه المرأة.
وكذلك بالنسبة لتقديم الليل على النهار فلو اخذنا قوله تعالى: "وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ" (يس/37) فإنه دلّ على التقديم في مقام الحركة على أن جهة الليل من الأرض أسرع من جهة النهار حقيقة عند الاطلاق والمعرفة العلمية الحديثة تشرح هذا النظام الفريد وتحل معضلة اولوية الليل في الحركة ثم تبين إن جهة الليل عند الإطلاق أسرع فلكياً بالفعل، ولكلمة الليل الواردة في القرآن الكريم عدة دلالات منها:
1- افضل أوقات العبادة:
المتمعن في آيات القرآن الكريم يجد أن للعبادة والدعاء أماكن وأزمنة مفضلة لقبولهما ومن هذه الأزمنة هو الليل وقد وردت آيات كثيرة تدل على عظمة هذا الوقت كقوله تعالى: "لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" (آل عمران/ 113)، وقوله تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ" (هود /114)، وقوله تعالى: "أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً" (الإسراء /78)، وقوله تعالى: "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً" (الإسراء /79)، وقوله تعالى: "وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى" (طه /130)، وقوله تعالى: "أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" (الزمر /9)، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تؤكد لنا هذا المعنى.
2- آية من آيات الله تعالى:
هناك كثير من الآيات التي تدل على قدرة الباري تعالى والتي تعد آية من آياته حيث جعلها حجة على المعاندين والمخالفين ومن هذه الآيات العظيمة هو اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما اللذان يدلان على عظمة الخالق تعالى ومن هذه الآيات قوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (البقرة /164)، وقوله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ" (آل عمران /190)، وقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ" (الإسراء /12)، وقوله تعالى: "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ" (النور /44)، وغيرها من الآيات التي جعلها الله تعالى حجة على خلقه والتي في اكثرها ترد بعد عبارة خلق السماوات والارض لما لها من حجة دامغة.
3- نعمة من الله:
إن هذه الآية هي نعمة من الله تعالى حيث جعل الليل والنهار نعمة لمخلوقاته فهما مسخران بأمر من الله تعالى خدمةً للانسان وقد بين الله تعالى هذا المعنى في عدد من آياته كقوله تعالى: "وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" (إبراهيم /33).
4- وقت السكون والهدوء والراحة:
لقد خلق الله مخلوقاته ومنها الانسان على أساس بناء طاقة جسدية وفقدان طاقة، فالانسان يجهد نفسه ويتعب ويحتاج جسده الى راحة يستعيد الجسد من خلالها نشاطه وأفضل راحة هي النوم بالليل وقد جعل الله تعالى هذا الوقت مناسباً لذلك فالهدوء مخيم عليه والظلام يحل فيه مما يعطي دافعاً للانسان للإندفاع الى الراحة في هذا الوقت وقد اكدت آيات كثيرة هذا المعنى كما في قوله تعالى: "فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" (الأنعام /96)، وقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ" (يونس /67)، وقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً" (النبأ /10)، وغيرها من الآيات الدالة على هذا المعنى.
لذا فإن لليل معانٍ ودلالات كثيرة قد لا يستطيع الانسان التوصل الى القليل منها كما هو حال بقية مخلوقات الله تعالى التي بقي الانسان متحيراً أمامها ولكن (ما لايدرك كله لا يترك جُلّه) ولعل بعض ما يتوصل اليه الانسان القاصر يكون عبرةًَ لنا.
|
|