الاتجاه الرسالي في تفسير من هدى القرآن (القسم الأول)
الإصلاح والتربية على أساس فهم النصّ ومدلولاته
|
بقلم : سماحة السيد محمود الموسوي
تنوعت مناهج التفسير القرآني وتوصيفاته وفقاً للأدوات المستخدمة في فهم النص، ووفقاً للمقاصد المرجوة من عملية التفسير، فتمخضّت عدة مناهج تفسيرية بمرور الزمان، فمنها التفسير بالمأثور الروائي عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)، ومنها ماكان تفسيراً لغوياً وأدبياً، يعمل دلالات اللغة واستعمالاتها، ومنها ما فسّر القرآن بآيات القرآن الأخرى، توضيحاً وإحكاماً، ومن المناهج التي صنّفت حسب مقاصدها، ماكان كلامياً ومنها ما يتوخى البيان والإعجاز البلاغي، ومنها ما يطلب البعد العلمي، وغيره من المقاصد.
*الاتجاه الإصلاحي والتربوي*
وتفسير (من هدى القرآن) الذي طبع في بداية الثمانينات من القرن المنصرم في ثمانية عشر مجلداً، وطبع مجدداً في سنة 1430 للهجرة في إثني عشر مجلداً ضخماً، لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، الذي نحن بصدد تناول البعد والمجال الرسالي فيه، يعد من التفاسير (الإصلاحية) و (التربوية) بحسب التعابير المختلفة التي وصفت مثل هذا النوع من التفسير وفقاً لمقاصده وأهدافه، لا وفقاً لأدواته المنهجية المستخدمة في فهم النص الديني، لأن توصيفه ضمن أداة فهم النص سيطلق عليه تسمية أخرى، وما يهمنا في هذه الدراسة والعرض، على سبيل التقديم لما نروم الوصول إليه واستظهاره، هو بعد المقصد والهدف من التفسير الذي عبر عنه الباحثون في الشأن القرآني بالإصلاحي حيناً وبالتربوي حيناً آخر، ويمكن أن نضيف تسمية أخرى لهذه التسميات، وهي (الاتجاه الرسالي) في التفسير كتعبير عن الأهداف التي جاء بها القرآن الكريم ليعززها في الفرد والأمة.
فالتفسير الإصلاحي بشكل عام "يمتاز عن الاتجاهات الأخرى في التفسير بكونه يهتم بالبعد الاجتماعي والتربوي في الآيات. إذ يسير التفسير في هذا الاتجاه مستهدفًا دراسة الآيات وتفسيرها من جوانبها الاصلاحية على الصعيدين الاجتماعي والاخلاقي، وإبراز ما تنطوي عليه من عناصر وأطر بناءة اجتماعيًّا وتربويًّا.
فيجري التركيز، في هذا الاتجاه، على جملة محاور اجتماعية منها: هوية المجتمع المسلم، الفضيلة في حياة الإنسان، القيم والمثل الإنسانية، وحدة الأمة وتلاحمها، الواجبات والمسؤوليات الاجتماعية، تشخيص عدو المسلم وأصدقاءه، النظم السياسية والاقتصادية والاخلاقية، السنن الإلهية في حياة المجتمعات والحضارات واندثارها، مناهج التربية وأساليبها، استثمار العواطف والمشاعر في صنع القيم والمثل، تفعيل الإسلام باعتباره مذهبًا فكريًّا واجتماعيًّا، العدالة الاجتماعية، نظام الأسرة، وأمثال ذلك.
واتفق المفسِّرون الذين ينتمون لهذا الاتجاه على مبدأ أساس مفاده أن القرآن كتاب هداية وأنّ على التفسير أن يؤدي دوره في تفعيل حركة القرآن في هداية المجتمع من خلال تقريبه من الواقع وتجسيد مفاهيمه الاصلاحية تجسيداً حياً. وقد مثل هذا الهمّ هاجساً مشتركاً بين جميع التفاسير ذات المنحى الاصلاحي 1.
ولقد عدّ الكثير من المتخصصين في الشأن القرآني، تفسيرَ (من هدى القرآن) من التفاسير ذات المنحى الإصلاحي2، وقد قال عنه المحقق الشيخ محمد هادي معرفت في كتابه (التفسير والمفسرون): تفسير تربوي تحليلي شامل، يبحث فيه المؤلف عن الربط الموضوعي بين الواقع المعاش؛ وبين الحقائق الراهنة والدلائل البينة التي أبانها القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنا، كمنهج تربوي وأخلاقي، يستهدف وضع الحلول الناجعة لكل مشكلات العصور المختلفة حتى قيام الساعة 3.
وقال عنه الباحث حسين فعّال عراقي: إن أحد مميزات هذا التفسير هو اهتمامه بالجوانب الاجتماعية والتربوية للآيات، وقد تم تأليفه بأسلوب تحليلي تربوي مع التأكيد على القضايا الاجتماعية، كما يلاحظ المفسِّر الحاجات والتساؤلات العصرية ويطرحها بشكل يتناسب وتفسير الآيات 4.
فالبعد الرسالي لتفسير (من هدى القرآن) من أجلى الأبعاد التي استهدفها، والتي ينطلق فيها أساساً من ربط الواقع المعاصر بكل مستوياته وبتنوع مسمياته وتحولاته، بآيات القرآن الكريم، ويذكر السيد المرجع المدرسي ذلك في مقدمة الطبعة الأولى للتفسير، يقول: وإني أحاول ربط الواقع الراهن بآيات الذكر، حيث إن ذلك هو الهدف من تفسير القرآن.. أوليس مثل القرآن مثل الشمس تطلع كل نهار بإشراقة جديدة على عالم جديد 5.
ولقد كان ذلك جلياً في ثنايا التفسير، حيث عمد إلى الحديث عن أسباب التخلف والفشل، في حياة الفرد ومسار الأمة، ومنهج الطواغيت في الحكم، وسبل مقاومة الإعلام المزيف، وكيفية التعامل مع الاعلام المعاصر، ومقومات الحضارة والرقي، وأسس البناء الاجتماعي والشخصي، والنظم الاقتصادية العالمية والسياسات الدولية، ويتصل بذلك حول بناء الشخصية الرسالية، من جهة الإيمان والثقافة والفاعلية، والتحولات التي تطرأ عليه في خضم الحياة المتجددة بأبعادها المختلفة.
*أساسان لمنهجية راسخة*
لقد جاء وصف تفسير من هدى القرآن بالاصلاحي والتربوي والرسالي، من منطلق منهجي قام على أساس فهم النص ومدلولاته ليأخذ أبعاده الواسعة التي جاء القرآن كرسالة خالدة لدين خاتم لكي يحققها في الواقع، تأسيساً على الإيمان بالقرآن كرسالة فاعلة وككتاب حياة دائم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى اتبع منهجاً في فهم النص القرآني، معتمداً على توجيه الروايات الصادرة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)، ومعتمداً على معطيات الآيات القرآنية الموضحة والمُحكِمة للآيات الأخر، وأصول اللغة العربية الخالية من الشوائب، فالمنهجية التي اتبعها السيد المدرّسي في تفسيره في بعدها الإصلاحي والتربوي والرسالي، قائمة على أساسين مهمين، مؤسسين على أسس منهجية راسخة، وهما كالتالي:
1/ أساس النظر لهدف إنزال القرآن الكريم، وهذا يتصل بـ (نوع المادة التفسيرية).
2/ أساس شولية المسؤولية والتوجيه القرآني وشموله للأجيال كافة، وهذا يتصل بـ (سعة المادة التفسيرية).
وسوف نتناول هذين الأساسين بشيء من التفصيل والإستدلال وفقاً لمنهجية سماحة السيد المدرّسي، ثم نستعرض المجال الرسالي كمادة تفسيرية تضمنها وتناولها التفسير بكثير من التفصيل والتركيز.
الأساس الأول: القرآن كتاب حياة..
من الضروري التعرف على ماهية القرآن الكريم وماهي أهدافه في الحياة، لكي نحدد الموقف منه وما يترتب على تلك الأهداف ومعرفة سبل تحقيقها، فإننا لو بحثنا ما بحثنا دون معرفة الماهية والهدف لما استطعنا أن نقف على أرض ثابتة، ولن نلامس الغايات الحقيقية التي يرومها القرآن الكريم، وهذا حال كل شيء، فإن التعامل مع أي شيء سيكون بحسب ماهيته ورسالته ودوره، وهذا الجانب يتصل بنوع المادة التفسيرية التي ستصدر عن عملية التفسير، لذلك يسوق السيد المدرسي في مقدمات التفسير في البحوث التمهيدية التي ترسم المعالم الأساسية لمنهج التفسير، مجموعة من الآيات التي تبيّن ما يصف به القرآن نفسه، ويسوق مجموعة من الروايات الشريفة التي تبيّن صفة القرآن الكريم وماهيته، ليعتمد بعد ذلك عليها في تأسيس الرؤية التي تسوق المفسّر إلى استهداف مضامين حيوية واستنباط رؤى معاصرة تتناسب وتوصيفات القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يصف نفسه بأنه نور وكتاب مبين، وكتاب هداية، وصراط مستقيم، حيث يقول تعالى: "قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (المائدة/ 16). وهو هدى وموعظة وشفاء ورحمة، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (يونس /57).
أما الروايات، فقد جاء عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: (إن لله عز وجل حرمات ثلاثاً ليس مثلهن شيء، كتابه وهو حمتكه ونوره، وبيته الذي جعله قبلة للناس لا يقبل من أحد توجهاً إلى غيره، وعترة نبيكم) 6.
وحقيقة الكتاب متمثلة في أنه كتاب حق، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (الشورى /17)، ولأنه أنزل بالحق فهو يورث الهدى وينفي الشك (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة /2)، وهو كتاب مبارك، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) (الدخان /3)، والكتاب المبارك لأنه ينمي مواهب البشر العقلية ويزكي الإنسان ويفتح له آفاق الحياة، ويزيده هدى، وهو كتاب نور، (الَر. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (الدخان /1)، يخرج الله به الإنسان من ظلمات الغفلة والجهل7.
فتأسيساً على هذه التوصيفات للكتاب الحكيم، فإن ما يعطيه وما يصدر عنه سيكون من جنس هذه التوصيفات، فالرؤى والأحكام والبصائر كافة المستنبطة من القرآن لابد أن تتصف بالنورانية والهدى والحكمة، فتنير الدرب أمام الناس وتهديهم إلى أفضل سبل العيش، وأقوم مناهج للحياة، بخلاف ما إذا نظر للقرآن على أنه كتاب موت أو كتاب بركة وحسب، أو كتاب مكتشفات علمية، أو كتاب طب بديل أو ماشابه ذلك، فإن المفسّر سيتوجه للبحث عن تلك الماهيات ومبتغياً تلك الغايات، فالنظرة التي ينطلق منها المفسّر سوف تتأثر بنوع نظرته لماهية القرآن الكريم.
|
|