الحوزة العلمية وعاءٌ لحمل القرآن الكريم وسنة أهل البيت (ع) الى العالم
|
صدق الله العلي العظيم
*إعداد / بشير عباس
ما السر في التحول العظيم في السلوك الانساني بعد بزوغ فجر الاسلام؟ وكيف تمكن شخص واحد وهو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، من ان يغير سجية الانسان في الجزيرة العربية من القسوة المفرطة حتى مع أقرب أعزائه، الى الرقّة والليونة مع أبعد الناس؟
مفارقات كبرى حصلت في الوضع الاجتماعي العربي بعد البعثة النبوية الشريفة تمخضت عن انتشار نور الاسلام الى ارجاء العالم، فتعلّم الناس في كل مكان القيم الانسانية والاخلاقية من مبادئ الدين الحنيف.
السؤال الكبير...
هنالك صورة: أب يغادر أهله في رحلة تطول، وحينما يعود يجد في الدار صبية فيسأل زوجته عنها، تقول له: انها ابنتك حملت بها قبل ان تغادر و وضعتها وربيتها... لم تنته القصة عند هذا الحدّ، فالأب القاسي يخفي دوافع الشر عن زوجته وعنها، يأخذها يوماً الى الصحراء ثم يبدأ يحفر في الارض، وكلما تعب وجلس الى جنب جاءت هذه الصبية الصغيرة ومسحت العرق والغبار عنه. ولكن حينما اكمل حفر القبر رماها فجأة داخل الحفرة وهي مدهوشة لا تعرف السبب، فتطلق نداءات الاستغاثة فلا يعبأ بها، ويهيل التراب عليها ويدفنها وهي حيّة. بعد ذلك يعود الى بيته وظن انه قد غسل العار!!
وهنالك صورة أخرى بالمقابل: في احدى غزوات النبي الاكرم و حينما جاءه احد اصحابه يقول: يارسول الله...! ان في منطقة قريبة هنالك مشهد مريع. قال وكيف؟ قال هناك عشرة من اصحابك ينزفون دماً وهم في حالة احتضار، فقال له النبي (ص) احمل اليهم ماء، فحمل الماء وقربه الى اول جريح واصر عليه ان يغترف منه غرفة ويشرب لكنه أبى وقال الجريح الثاني هو الاكثر حاجة وعطشاً مني، فذهب الى الثاني فقال ما قاله الاول، ثم ذهب الى الثالث والرابع وحتى العاشر، كلهم كانوا يرددون نفس المطلب والعبارة. ولما عاد الى الجريح الاول وجده قد فاضت روحه مستشهداً وهو عطشان، وهكذا كان حال البقية من افراد الجيش الاسلامي، ماتوا ولم يشرب أحدهم الماء دون الآخر. وكانوا مصداقاً للآية الكريمة: "ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة".
يبقى السؤال مطروحاً؛ رغم الفترة القصيرة التي فصلت بين تلك القسوة الجاهلية وبين هذه الرقة والخلق الرفيع، كيف تحولت تلك الامة المتفرقة التي كان شعارها الخوف ودثارها السيف و (كانوا يقتاتون الورق ويشربون الطرق)، - كما وصفتهم الصديقة الزهراء عليها السلام- الى تلك الامة التي يصفها ربنا تعالى ويقول: "كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"؟
إن الأمم التي خلت من قبلنا كانت لديها معاجز انبيائها مثل عصا موسى عليه السلام ونفس المسيح عيسى بن مريم الذي أحيا الله تعالى به الموتى وشافى الابرص، واليوم لانملك من تلكم المعاجز شيئا، لكن الثقلين الذين اورثهما النبي صلى الله عليه وآله لا يزالان فينا، وهما كتاب الله وعترته، وهو ما صرح به في حديثه المشهور: (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا). إذن؛ معجزة القرآن الكريم ومعجزة اهل البيت بيننا. لكن يظهر سؤال آخر؛ اين نحن من هذه المعاجز ؟ واذا كان القرآن الكريم بيننا ونحن بين يديه، واذا كانت العترة الشريفة موجودة وقائمة وحاضرة، واذا كان الامام الحجة ابن الحسن المهدي (عج) هو لا يزال موجودا ومثله مثل الشمس وراء الغيوم، فلماذا امتنا الاسلامية تعيش هذه الظروف الصعبة؟ ولماذا يسود الطغيان والظلام في بلادنا؟ ولماذا تمتلأ السجون بالحرائر؟ ناهيك عن الاحرار... ولماذا الانتهاكات المستمرة لحقوق الانسان؟ ألا يجدر بنا حقاً ان نجلس ونفكر... اين نحن من القرآن الكريم ؟ واين نحن من اهل البيت عليهم السلام؟ ولماذا ابتعدنا عنهما؟ ولماذا اشترينا الحياة الدنيا بالاخرة وكان حظنا في هذه الدنيا الأوكس ؟
شروط القرب الى الله
في (سورة المائدة) هنالك ما يشبه خارطة طريق نحو الله تعالى، والشروط المطلوبة اللازم توفرها فيمن يريد ان يكون مصداقاً للانسان المؤمن، وبما ان الاشياء تعرف باضدادها، مثل النور امام الظلام او الخير مقابل الشر او الحق مقابل الباطل وهكذا... وفي الآيات القرآنية الكريمة التي سنتلوها نجد ان القرآن الكريم يستخدم هذا الاسلوب البديع في البيان، فما هي الشروط والمواصفات:
أولاً: الحب والقرب..
جاء في الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (المائدة /54). اذا تدبرنا في هذه الآية والعلاقة بين الارتداد ومن يحبهم الله تعالى، نجد الآية الكريمة هي التي تجيبنا، فالذي لا يرتدّ عن دين الله ولا يخرج عن الطريق القويم، هو الذي يحظى بحب الله تعالى وقربه، والعكس بالعكس. وبهذا الاسلوب يبين لنا القرآن الكثير من الحقائق، فنحن نعرف النور بضده وهو الظلام، ونعرف الحق من خلال معرفتنا الباطل وهكذا الخير والشر وغير ذلك. ومن الحقائق الاخرى التي تشير اليها الآية الكريمة والآيات الاخرى من (سورة المائدة)، هي مسألة الجهاد في سبيل الله وأن لا يخاف المؤمن لومة لائم. فمن يتحدث عن الايمان والارتباط بالله تعالى عليه ان يتأكد من توفره على هذه الشروط.
ثانياً: الولاية..
وفي آية لاحقة نقرأ: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة /55)، بمعنى ان من يريد الا يكون مرتداً في الحياة عليه ان يتمسك بولاية من أمر الله بولايته، وليس شخصاً آخر، وذلك الذي زكّى بخاتمه وهو في حالة الركوع في مسجد رسول الله وبحضور النبي الأكرم وجمع غفير من الصحابة والمسلمين، وهي قصة معروفة ومذكورة في كتب التاريخ.
ثالثاً: حزب الله هم الغالبون..
"وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" (المائدة /56). يكفي القارئ الكريم ان يعرف عكس المطلب يفهم مغزى ومعنى هذه الآية الكريمة، وحسب ما قال البلغاء: (الكناية افصح من التصريح) لان الكناية فيها دليل وحجة، وهي متوفرة في الكتاب المجيد، وبمعنى ان الانسان ربما يطمئن الى نفسه بانه مؤمن في بداية حياته، لكن مع مرور الزمن وبسبب الانزلاقات والاسترسال مع الحوادث والانسياب مع الزمن يبدأ ايمان هذا الانسان بالذوبان، ومرة واحدة يجد انه خسر كل شيء، ومن أعلى قمة كان عليها، يجد انه عند سفح جبل. يقول الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: علم المؤمنون ان هذه القلوب تزيغ فقالوا: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا" ومن اهم وصايا نبي الله يعقوب لبنيه: (ولا تموتن الا وانتم مسلمون". أما اذا حصل ان قال انسان مؤمن: انا مؤمن فمن اين يأتي الله تعالى بشخص أفضل منّي....)!! فانه تعالى يجيبه في هذه الايات الكريمة بان لاحاجة لايمانك ولوجودك فهنالك الكثير من الناس ممن "يحبهم ويحبونه".
الحوزة العملية وتجسيد الثقلين
إن الولاية التي يطلبها الله تعالى منّا لا يجب ان تكون سطحية أو عاطفية وإلا نبتلى بحالة الارتداد – لا سمح الله- لذا يجب على كل واحد منا ان يجسد سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو القائل: (ألا وان لكل مؤمن إماما يستضيء بنوره ويقتدي بنهجه)، وان شاء الله نكون من هذا النوع، وان نتقدي بالامام الذي تصدق للفقير وهو راكع يصلي فيما لاذت سائر المسلمين بالصمت داخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله.
من هنا يجب ان نعرف من هو الذي يجسد القرآن الكريم ؟ ومن هم الذين آمنوا الذين جاء ذكرهم في الآية الكريمة الآنفة الذكر؟ ومن الذين نافقوا؟ وإلا يبقى القرآن على الرفوف، بينما يجب ان يكون بيننا نعيشه بكل تفاصيله وأحكامه، ثم من هم حزب الله؟
حسبما يبدو لي فان الحوزة العلمية وعلماء الدين يمثلون الوعاء الذي ينمو فيه (حزب الله)، وهي الفئة التي ربنا تعالى يقول: انهم هم الغالبون، وهم ايضاً الوعاء الذي يستوعب سيرة أهل البيت عليهم السلام ابتداءً من الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وانتهاءً بالامام الحجة المنتظر عجل الله فرجه، فالحوزة العلمية محاولة ومسعى جاد من اجل التمثّل بحياة النبي الأكرم واهل بيته المعصومين صلوات الله عليهم. حينما يرتدي طالب العلم العمة فانه بالحقيقة يحاول ان يكون في هيئته الظاهرية على شاكلة النبي واهل بيته، لانه يتخيل ان النبي هكذا كانت ملابسه، بل ان طالب العلم من اول خروجه صباحاً من بيته يتذكر النبي كيف كان يخرج من بيته وكيف كان يمشي ؟ وما هي آدابه واخلاقه ؟
ان طالب العلم حينما ياخذ الكتاب المجيد ويقرأ آياته الكريمة او يقرأ الادعية ويصلي فانه يبحث عن كيفية صلاة النبي واهل بيته، وهكذا يكون طالب العلم في علاقته و سلوكه وكل ما له صلة بحياته، وبالنتيجة يتمثل الاسلام كله بل و يكون وعاء للثقلين؛ كتاب الله وعترة النبي الاكرم، وهذا ما يجب ان تسير عليه الحوزات العلمية النشيطة والمجاهدة. ونحن على ثقة بان الحوزات التي تكون وعاءً مناسباً للثقلين - كتاب الله وعترة النبي- هي التي ستغير التاريخ، والدليل على ذلك ما قام به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عندما غيّر مسار التاريخ بالقرآن الكريم، ومن ملامح هذا التغيير الكبير القصة المعبرة التي استهلينا بها الحديث، فالرجل الذي يدفن ابنته الصغيرة البريئة بكل قسوة تحت التراب غير عابئ بصراخها، يتحول الى ذلك الرجل الذي يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، ويموت دون ان يذوق قطرة من الماء ليواسي بذلك اخوانه في الجيش الاسلامي. هذا فضلاً عن التحولات الظاهرية العديدة في المجتمع والحياة، وما نتج عن ذلك ولادة أمة لم تكن تغيب عنها الشمس.
علماء في القرآن والسيرة
ما زالت الحوزة العلمية والعلماء يمثلون الوعاء الذي يحمل الكتاب المجيد وسنة أهل البيت صلوات الله عليهم، فان الخطوة الاخرى تكون نحو القرآن الكريم، فلابد ان يتجلى في السلوك وكذلك سيرة اهل البيت عليهم السلام، والطريق الى ذلك يتمثل في الاقتراب اكثر الى القران الكريم واستلهام الافكار والاحكام منه، فهو يقول "يحبهم الله ويحبونه"، فلابد من تجسيد هذه الصفات. ان القران كتاب الله وهو حبل الله المتين العروة الوثقى وهو السبب المتصل بين الارض والسماء وهو الشافع المشفع من جعله امامه قاده الى الجنة ومن جعله خلفه ساقه الى النار. لنقرأ القران ونتدبر في آياته، فهو نزل بلسان عربي مبين. يخترق القلوب، لننفتح عليه ونفتح قلوبنا عليه ونجعله نصب أعيننا دائماً. في سالف الزمان كان في الحوزات العلمية مدرس عظيم في الفقه مدرس وآخر كبير في الاصول ولكن كان هناك ايضاً مدرس عظيم وخطير وهام في التفسير وفي علم المناظرات .
واليوم نحن بحاجة الى علماء في التفسير وعلماء في سيرة اهل البيت، وهذه السيرة ستكون في الحقيقة خطة عمل بالنسبة لنا، بمعنى اننا يجب ان نقتدي بكلام وفعل اهل البيت عليهم السلام، فقول المعصوم وفعله وتقريره حجة علينا. مثال على ذلك سيرة الامام الحسين عليه السلام، فهل يجب ان نكتفي ما نسمعه من المقاتل ومن افواه الشعراء وغيرهم؟ أم يجب ان نتبحر في سيرة هذا الامام العظيم، ونميّز بين الغث والسمين وبين الكلام العاطفي الصادر من المنامات والاحلام ومن كلام الشعراء وبين الكلام الاصيل والحقيقي.
حلول لأزمات العالم
عندما نسمع عن الكوارث والازمات التي تلمّ بالمعمورة علينا ان نفتح الكتاب المجيد ونستلهم منه الاحكام بل وخارطة الطريق التي تهدي البشرية الى ساحل الامان، وكذلك نفعل من خلال مطالعة سيرة اهل البيت عليهم السلام. وضرورة ذلك تتأكد باقتراب بلدان العالم بعضها للبعض الاخر، فاي ازمة او كارثة تحل ببلد تترك اثرها على البلد او البلدان الاخرى، إذن؛ يواجه العالم مشاكل كبيرة وازمات خانقة بالامكان ايجاد حل لها من القرآن الكريم وسنة اهل البيت عليهم السلام.
لكن المهم أولاً؛ ان نستفيد نحن من كتابنا المجيد ومن سيرة اهل البيت وكلماتهم المضيئة ثم نوجه هذا الشعاع الساطع الى العالم برمته. هنالك الكثير من المؤلفات والكتب حول عهد الامام امير المؤمنين لمالك الاشتر، لكن علينا الاسراع في التطبيق قبل ان يسبقنا الى هذه الكلمات غيرنا ويستضيء بنورها.
من هنا علينا ان ننتبه ان يكون امامنا هكذا مآل وعاقبة ونكون من المبعدين الخاسرين وتنطبق علينا الآية الكريمة: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه".
الكتاب .. هجران المطالعة وإجحاف المثقفين
*علي جواد
عندما تتجول في الاسواق تجد التهافت والتدافع على المحلات التجارية او واجهات المعارض وما تحويه من مغريات وعوامل جذب للزبون، إلا صنف واحد يخلو على الاكثر من هذه السمة في الشارع العام. انها المكتبات ودور النشر التي تعرض ما استجد من مؤلفات باهتمامات شتى، وبعد ان أعيت الحيلة اصحاب هذه المهنة القديمة والعتيدة، تقدموا خطوة متقدمة نحو الزبون لنرى افتراش الكتب للارصفة وعلى جانب الطريق العام، وذلك بشكل مصفوف ومنظم واحياناً بشكل فوضوي (متلل) يبعث على الأسى والحزن حقاً على مصير هذا الجليس والصديق القديم للانسان المتعلم والمثقف.
والكتاب و قانون العرض والطلب
دار حديث مع احد الاصدقاء العاملين في مجال النشر والتوزيع، فاجأني بالقول: ان الكتاب في المكتبات لدينا يخضع لقانون (العرض والطلب)، فتراقب الدار والمكتبة توجه القارئ وهواه في المطالعة، اذا كانت ادبية – قصصية سارعت الى اعادة طبع كتب من هذا السنخ، او اذا كانت علمية – دراسية مالت الى هذا النوع من الكتب، او اذا كانت تتعلق بالمسائل الغيبية مثل (تفسير الاحلام) او غير ذلك من الاهتمامات. لكن لنا ان نعرف ونحن نتحدث عن شأن ثقافي بحت، ان هذا القانون تم سنّه من قبل علماء الاقتصاد لادارة سوق السلع الاستهلاكية، من قبيل الوسائل المنزلية والالكترونية والغذائية و وسائل النقل والاتصال وغيرها، وهي مفردات تندرج ضمن الامور غير المستقرة لدى الانسان، فكل يوم جديد وحديث، وكل يوم ثمة حاجة جديدة للانسان، ربما تزيد او تقل حسب الدخل والظروف العديدة المحيطة به. بينما الكتاب يتعلق بالذهن والفكر، فهو مفردة او مادة غير قابلة للاستهلاك. نعم... ان الفكرة او النظرية التي تضمها دفتا الكتاب قابلة للتجديد وليست آية منزلة ومقدسة، فنلاحظ بعض المؤلفين المتسمين بالحضارية والرسالية يعيدون النظر في مؤلفهم اذا أريد له تجديد الطباعة ليجددوا فيه بعض الافكار والرؤى مواكبة للتطورات الحاصلة على صعيد الفكر والثقافة. وهذا بحد ذاته يزيد من قيمة الكتاب ومنزلته لدى القراء وفي المجتمع بشكل عام.
إذن ما الذي جعل الكتاب يصطف في الاسواق الى جانب الملبوسات والمواد الغذائية والاجهزة الكهربائية و....؟!
هنالك مقولة شائعة صنعت مثلثاً تتكون اضلاعه من: (المؤلف – دار النشر او المكتبة- القارئ)، هذه الاضلاع هي المسؤولة عن رفع قيمة وشأن الكتاب أو حطّه الى مستويات متدنية. ويبدو ان البعض راضٍ بهذه القسمة (الضيزى)، لانها توزع المسؤولية بالتساوي وكما يقال (المصيبة اذا عمّت هانت)! لكن هنا المسألة تختلف تماماً، لانها جداً خطيرة ومهمة ولا تحتمل الاتكالية والتنصّل من المسؤولية، فالقارئ لن يجد الكتاب إلا في المكتبة او في دار النشر والطباعة والتوزيع، وهذه بدورها لن يصلها الكتاب إلا بجديد يخطه يراع هذا المؤلف او ذاك الباحث. اذن؛ ترسو السفينة على المؤلف وصاحب القلم المسؤول.
لنلقي نظرة على عناوين الكتب والمؤلفات في سني السبعينات من القرن الماضي وهي بالحقيقة فترة الجيل الماضي، نجد ان الافكار والرؤى اكثر عمقاً والموضوعات اكثر شمولية والاسلوب اكثر شفافية وصدقاً. ثم لنلقي نظرة أخرى على وسائل الترفيه وقضاء الوقت السائدة آنذاك، ونجد ان القارئ ذلك الوقت لم يكن على سطح كوكب خال من الموجودات والاثارات، انما كانت هنالك المقاهي والاندية اضافة الى المذياع والتلفاز والسينما، وكانت هذه الوسائل آنذاك بالحقيقة في أوج عطائها وتأثيرها، لكن الكتاب رغم ذلك كان له منزلته وجلساؤه لاسيما تحت شعاع الضوء في الليالي الظلماء. ثم لنلقي نظرة على الوقت الحاضر وابناء هذا الجيل، ونجد انه استعاظ مجالسة الكتاب في تلكم الليالي الشاعرية بالتسمّر أمام الشاشة الصغيرة ولساعات طوال باتت تثير فزع ومخاوف علماء الصحة والطب البدني والنفسي. فهل غادرهم الكتاب ولم يجدوا جليساً غير التلفاز او مواقع (النت)؟ أم ان الكتاب هو الذي هجرهم بجدبه الفكري والثقافي؟!
علينا ان لا نجانب الحقيقة ونقر بالقصور الكبير في مجال انتخاب موضوع الكتاب، فالكاتب أياً كان، يعرف جيداً ان الكتاب الذي صبّ فيه عصارة جهده الذهني لا يقدمه للطبع والنشر بغرض الترف الفكري، انما لنشر الرأي والفكرة البناءة والمفيدة للفرد وللمجتمع. هذا الرأي والفكر هو الذي يخلق جيل القراء فينتقون الحسن والأحسن، مثالٌ على ذلك الأدب بمادتيه الشعر والقصة، فطالما استوطنت هاتان المادتان قلوب الشباب وشغلت اذهانهم بل وحددت مواقفهم من قضايا مصيرية. كذلك الحال في مجال الثقافة والفكر والتاريخ واللغة وغيرها، فقد كان القارئ يشهد امامه ساحة فسيحة تعجّ بالمطارحات الفكرية والادبية والتنافس على أشده، وبما ان مبدأ الموضوعية والتوثيق وغيرها من القيم الثقافية سائدة، لم يجد القارئ صعوبة اكتشاف الحقيقة ومعرفة طريق الصواب عن الخطأ.
النخبة مسؤولة ايضاً
اذا كنّا ننصح الناس او فئة الشباب باهمية المطالعة لثقافتهم ومعارفهم وحتى دينهم، فاننا بالحقيقة نوقد ضياءً الى جانبنا يجعلنا في دائرة المسؤولية لتوفير الكتاب اللازم والاجواء اللازمة للمطالعة. طبعاً هذا لايعني بأي حال من الاحوال ان الكتاب سيطرق باب الانسان في بيته ليكون بين يديه بالمجان، انما عليه ان يقطع المسافات ويتحمل المشاق وينفق المال للحصول عليه، وهذه قضية مفروغ منها في حال وجد ذلك العنوان الجدير والموضوع الذي يستحق كل ذلك. فنحن ننصح بمطالعة الكتاب المفيد في مجال الثقافة والفكر والتاريخ والادب، لكن نجد معظم واجهات المكتبات تعجّ بعناوين من قبيل (تفسير الاحلام) او (المراثي) (طب الاعشاب) او عناوين حول المطبخ الناجح او الزوجة الناجحة أو....!! وكل هذا وغيره حسن ومطلوب يندرج ضمن الثقافة العامة، لكن لا يجب ان يكون بديلاً عن التأصيل والعمق، حتى لا نبقى ضحية التسطيح التي تُعد من أبرز عوامل تخلف ودمار الشعوب لاسميا الشعب العراقي خلال الاربعين عاماً الماضية.
البعض يتحدث عن غلاء الورق كونها المادة الأساس في طباعة الكتاب وخروج التأليف الى نور الاسواق، لكن هذه ايضاً لن تكون عقبة حقيقية امام ظهور الكتاب المفيد، ففي وقت تنفق الملايين والمليارات على أمور ربما تكون تافهة في معظم بلادنا منها العراق، فانه لن يكون كثيراً على الدولة رصد ميزانية معينة لدعم طباعة الكتاب، كما يفعلون ذلك مع المناهج الدراسية. الى جانب الحكومة عندنا المؤسسات الدينية مثل الحوزات والحسينيات والمراكز الثقافية والبحثية والخطباء والوجهاء... كل أولئك من شأنهم دعم مسيرة التأليف وتقويتها، ومن أروع ما سمعته من الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي (طاب ثراه)، دعوته المكررة في اكثر من محاضرة على ان تشمل التبرعات طباعة الكتب الدينية التي تتحدث عن حياة المعصومين عليهم السلام، وعن الثقافة الاصيلة والفكر النباء. الى جانب التبرع لبناء المساجد والحسينيات ورعاية المشاريع الاجتماعية – الخيرية.
ان حلّ مشكلة طباعة الكتب وتخفيض اسعارها الى حدٍ معين لا يعني حل المشكلة وتحول الشباب الى مطالعين مجدين، لأننا سنشهد مشكلة اخرى يتحدث عنها آخرون وهي مكان المطالعة (المكتبة)، فالعقار باهظ الثمن او مشكلة الترخيص والتأثيث و.... وهكذا اذا صار (الحبل على الجرار) كما يقال، فان المشكلة لن تحل ابداً، ونكون قد جنينا على ابناء الجيل الجديد بحرمانهم من الثقافة والمعرفة، بهذه الاعذار الواهية.
|
|