في ظل القرآن الكريم..
احترام التفاوت الاجتماعي وتقديس العقيدة
|
إعداد: سامي عبد الامير
بما ان الانسان اجتماعي بطبعه وهو اسم على مسماه فهو (يأنس) بنظيره، فهنالك عدة انواع من الروابط تشد بين ابناء البشر، بعض هذه الروابط طبيعية – فطرية، والبعض الآخر أوجدها الانسان بنفسه خلال ظروف معينة من هذه الروابط:
1- الدم أو القرابة أو الرحم كالإخوة والأبناء والآباء، والأقرباء كالأخوال والأعمام، وروابط النسب كالزواج والرضاع.
2- الوطن، وهو البقعة الجغرافية التي يسكن عليها الانسان او تكون مسقط رأسه ومحل نشأته.
3- القومية، وهي سمة أوجدها الانسان لنفسه بسبب ظروف معينة، فكانت هنالك أمة العرب، وأمة العجم وغيرهما.
4- المهنة، التي تجمع اصحاب المهن والاعمال في تكتل واحد، مثل العمّال والمزارعين والصناعيين والاطباء والمحامين وغيرهم.
5- الدين، هذا الرابط يشد الانسان الى اخيه الانسان برابطة العقيدة والايمان، وهي أقوى الروابط؛ لأنّ من صفاتها الديمومة، وكلّما اشتدّ الالتزام الديني قويت تلك العلاقة وترسّخت وآتت أكلها. "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران /110).
فقبل مجيء الإسلام كانت القبائل العربية تعيش حالة من الصراع والنزاع القبلي والعشائري، يحدث بين القبائل غارات وحروب وسلب ونهب، فالمجتمع مفكّك العرى، تطحنه رحى الثارات والغارات، وعندما جاء الدين الإسلامي توحّدت الصفوف وتآلفت القلوب وتقاربت النفوس وتغيّر المجتمع رأساً على عقب؛ لأنّه استمسك براية (لا إله إلا الله محمّد رسول الله)، وهذا لم يكن لولا المؤاخاة التي بادر اليها الرسول الأكرم بين المهاجرين والانصار، فكانت بمنزلة حجر الاساس للمجتمع الاسلامي الاول، واللبنة الاولى التي وضعها صلى الله عليه وآله وسلم لدى دخوله المدينة. وهذا ما جعل المسلمين يظهرون للعالم كقوّة لا تقهر، تدانيها قوّة، ومن مصاديق الأخوّة الحقّة التي أظهرها المسلمون الأوائل تقاسمهما لقمة العيش بين المهاجرين من مكة والأنصار في المدينة، بعد ان اتخذ كلّ فرد من المهاجرين فرداً من الأنصار أخاً له، حتى إنّ بعض الأنصار من المدينة ممّن له زوجتان يطلّق إحداهما ليزوّجها أخاه المهاجر إذا لم يكن له أخت أو بنت يزوّجها إيّاه، فضلاً عن مشاطرته ماله وداره؛ بل يؤثره على نفسه.
في الدين الإسلامي نظام كامل للحياة، ينظمّ حياة الإنسان مع نفسه ومع والديه ومع أسرته والأسرة مع المجتمع، ثم مع الدولة وحتى مع الشعب الآخر.
وهكذا عاش المسلمون بمختلف انتماءاتهم والوانهم وشرائحهم، تحت راية الاسلام بكل سلام واستقرار و ودّ ومحبة، إذ لا عداواة ولا ثارات ولا طغيان وعدوان، إنما الميزان هو حكم الشرع وحدود الله ومن يتعداها يكن من المعتدين الآثمين. وهذا بفضل وجود كلام الوحي المنزل القرآن الكريم الذي يُعد بحق الدستور ونظام الحياة المتكامل الذي أنزله الله تعالى نعمة لنا الى يوم القيامة. لذا لا نجد في التاريخ الاسلامي الأول مشاهد او ظواهر اجتماعية شاذة مثل المشاكل الاسرية او النزاعات الاجتماعية كالتي نسمع عنها يومياً في الوقت الحاضر. نعم؛ كل ما هنالك هو مشاكل وازمات يفتعلها طلاب الحكم والسلطة.
عامل العقيدة وعامل البيئة
بعض علماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد يرجعون التفكّك والصراع القبلي والعشائري في شبه الجزيرة إلى ظروف الطبيعة القاسية باعتبار أنّ جفاف الصحراء وقلّة الأمطار يؤدّي إلى قلة الزراعة، فيحدث تنازع على موارد المياه وعلى مواطن العشب والكلأ، وهذه – كما يقولون - تجعل سلوك الإنسان وتصرّفه وعقائده تابعة للمحيط أو البيئة التي يعيش فيها، فالموقع الجغرافي الذي تتوفّر فيه المياه والأمطار والتربة الصالحة للزراعة يؤثّر في حياة الإنسان ويؤدّي إلى استقراره وتبعده عن الصراعات والنزاعات، فيعيش الأمان والراحة ويكون مستقرّاً في حياته.
هذا ممّا لا شكّ فيه يُعد عاملا مهمّا، ولكن الأهمّ منه العامل الروحي والمعنوي عند الانسان، فالذي يؤمن بالله واليوم الاخر وكل ما جاء به الاسلام، فإنّ عقيدته ستنقلّه من حياة البداوة والشرك والجاهلية إلى حياة فاضلة سعيدة مستقرّة قوّية. والدليل على ذلك الانقلاب المهمّ الذي حدث في حياة الإنسان الجاهلي، ومثل هذا يفنّد نظرية بعض علماء الاقتصاد القائلة بالصلة الحتمية بين التطوّر الحاصل في أدوات الإنتاج والتطوّر الذي يحصل في النظام الاجتماعي، ويؤكّد الاسلام إمكانية أو صلاحية الاحتفاظ بنظام اجتماعي واحد يطبّق في جميع الأزمنة وأن اختلفت وسائل الإنتاج في أشكالها، فالنظام الاقتصادي يساير الفطرة ويحتوي على قواعد وانظمة متكاملة يصلح للحياة الإنسانية في مراحلها المقبلة ويحقّق لها السعادة والحياة الحرّة الكريمة، ذلك لما في الإسلام من ضمان وتكافل اجتماعي وفرض مقدار من أموال الأغنياء ليعطى للفقراء، وفيه من تحريم للربا والاحتكار وغيرها، تقول الآية المباركة: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا" (التوبة /103).
بين التفاوت والوحدة
هنالك فرق بين التفاوت والافتراق، اذ يوجد في المجتمع الغني كما يوجد الفقير ويوجد العالم والجاهل، والكبير والصغير... وهذه حقيقة يقرها القرآن الكريم: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر /9)، و "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ" (النحل /71). لكن هذا التفاوت لا يتنافى مع الوحدة والأخوّة التي دعا اليها الاسلام وأكد عليها القرآن الكريم في اكثر من آية كريمة، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات /13). أمّا الافتراق فهو نقيض التماسك والتقارب، فهو الاختلاف في المعتقد والاضطرابات في العلاقات.
ان العلاقات التي أوجدها الانسان بدافع المصالح او الظروف الطارئة لن يكتب لها النجاح إلا في اطار تلكم المصالح والظروف، بينما العلاقات التي جاء بها الاسلام على لسان النبي الأكرم والمعصومين وما جاء في القرآن الكريم في اكثر من آية، هي التي تضمن السلامة والامان لحياة المجتمع، يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في الحديث المأثور: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)، تقول الآية الكريمة: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات /10). وبهذه الاواصر الدينية تنتفي بشكل طبيعي وبديهي كل الاواصر والعلاقات المفتعلة او الفوارق الظاهرية بين بني المسلمين، ومن نافلة القول هنا؛ ان الاسلام انما انتشر بهذا الشكل السريع خلال القرون الماضية في ارجاء العالم وما يزال رغم الظروف الصعبة والتحديات، فهو بفضل هذا العامل من جملة عوامل اخرى، حيث يشهد سكان المعمورة ما يقدمه الاسلام على صعيد العلاقات الانسانية، فالانسان يبقى يحمل هوية الارض واللغة واللون وسائر الفوارق الاجتماعية الاخرى، لكن كل ذلك يذوب في بوتقة العقيدة والايمان فيعيش الجميع تحت راية الاسلام، والجميع يقفون صفاً واحداً للصلاة نحو قبلة واحدة ويقرأون القرآن الكريم بلغة واحدة وهكذا سائر العبادات والالتزامات الدينية والاخلاقية.
|
|