قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

التقوى والصلاح قاعدة العلم النافع
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
تعتمد الحياة على قاعدتين أساسيتين هما العلم والعمل. والعمل حينما يتكثف، يتحول إلى رصيد متراكم يُسمى مالاً. فالمال في الواقع ليس الا عملاً مركزاً ومتراكماً. أما العلم فهو جانب الرؤية إلى الحياة، ومعرفة النظم الحاكمة فيها، وطريقة تسخير الأرض وما فيها، ومعرفة النظام الكوني الذي نعيش فيه.
إذن؛ فحياة البشر في هذه الدنيا تعتمد على عنصري: العلم والمال.
وحينما نقيس العلم والمال، فلا ريب أن العلم يسمو على المال، ذلك لأنه لولا معرفة الإنسان بالحياة، لما كان هناك فرق بين البشر وبين سائر الأحياء، بل لم يكن هناك فرق بين الإنسان وبين الطبيعة، والإنسان إنما سخّر الطبيعة بعلمه، لذلك نجد في الآيات القرآنية تذكرة بهذه الحقيقة، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في قصّة نبينا آدم (عليه السلام): "وَعَلَّمَ ءادَمَ الأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلآَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِاَسْمَآءِ هَؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ اِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَآ ءَادَمُ أَنْبِئْهُم بِاَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِاَسْمآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَاتُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُوْا لاَدَمَ فَسَجَدُوا إِلآَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (البقرة /31-34)
إن الملائكة سجدوا للانسان لأن الله علّم الإنسان مالم يعلم، وذلك حينما زود الله أبانا آدم بالعلم. واذا كانت الملائكة هي الحقائق الغيبية الموكلة بالطبيعة، فهذا يعني أن الله أسجد للانسان كل الطبيعة وسخّرها له، باستثناء شيء واحد هو نفس الإنسان الأمّارة بالسوء، التي تمثلت في تمرّد إبليس وعصيانه لأمر الخالق جل شأنه. وإذا استطاع الإنسان أن يُخضع نفسه الأمارة بالسوء، عندها ينتصر على الشيطان، وبذلك تكون الطبيعة قد سُخّرت للانسان بشكل تام، ويكون قد حقق السيادة على الكون، وذلك ما يريده الله عزوجل.
*بالعلم يُقهَر الشيطان
كيف يستطيع الإنسان أن يُخضع نفسه الشهوانية لعقله النيّر، وينتصر على عدوه الأكبر الشيطان؟
إن ذلك يتم بالعلم أيضاً، ذلك العلم الإلهي الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في الإنسان. إن إبليس حينما عصى وتمرد لم يخرج عن حكم الله وسلطانه، والله عزوجل قادر على أخذه متى شاء، فكذلك الإنسان الذي يحمل العلم الالهي يستطيع أن يقهر إبليس وينتصر عليه إذا أراد ذلك. يقول تعالى: "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (النّحل /99).
إنّ الإنسان إذا سُلب منه علمه أصبح ليس فقط كسائر الحيوانات، بل وأقل قيمة وأضل سبيلاً، والسبب إنّ الحيوانات التي لم تزوّد بالعلم، قد زُوِّدت بالغريزة، وبالقدرة على التكيف مع ظروف البيئة وقوانين الحياة، بينما الإنسان لم يزود على نفس المستوى بهذه الأشياء، وإنما زُوِّد بأفضل من ذلك وهو العقل، الذي يتعلم به الطريق إلى الإنتصار على الطبيعة.
فمثلاً: الحمام يطير في السماء بغريزته وقدرته على التكيف مع المجال المغناطيسي للأرض. لذلك تجد الحمامة تستطيع أن تهتدي إلى عشها ولو كان يبعد عنها عشرات الكيلومترات، دون أن تخطىء. ولكن الإنسان لا يستطيع أن يطير ولا يمتلك في جسمه جهازاً رادارياً، غير أنه بعقله وعلمه استطاع أن يتفوق على الحمامة، فاخترع الطائرات النفاثة والضخمة ، واخترع أجهزة الرادار الالكترونية التي مكنته من الوصول إلى كل بقعة من بقاع الأرض بحرية وسهولة وسرعة، وبغير العلم كان سيصبح محتاجاً كما كان يحتاج نبي الله سليمان إلى الهدهد، وكما كان الناس قديماً يحتاجون إلى الحمام الزاجل. كذلك القدرة السمعية عند الإنسان فإنها أقل بكثير مما عند بعض الحيوانات كالحصان أو القط – مثلاً- ولكن الإنسان المزوّد بالعلم إستطاع أن يخترع أجهزة سمعية كالهاتف واللاسلكي واذا به يتفوق على تلك الحيوانات بمراحل ويتمكن من سماع أصوات من مسافة تبعد آلاف الكيلومترات.
*بين العلم والمال
إذن، فعند المقارنة بين العلم والمال، نجد أن المال أقل قيمة من العلم. ولو قارنّا أيضا العمل بالعلم، لتوصلنا إلى أن العمل لا قيمة له الاّ اذا اهتدى بضوء العلم. لذلك نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه المعروف لكميل بن زياد يبين لنا أفضلية العلم على المال فيقول: (ياكميل؛ العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق... ياكميل، محبة العلم دين يُدان به، يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الاحدوثة بعد وفاته، وصنيع المال يزول بزواله... ياكميل؛ هلك خُزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدّهر)1.
ولكن هل يستطيع العلم وحده أن يقود المجتمع ويدير شؤونه؟ وهل تنجح دولة تقام على أسس علمانية مجردة وبعيدة عن القيم؟
يقول الإسلام: كلا؛ فالعلم بدون التقوى لا ينفع شيئاً بل سيكون ضرره أكبر من نفعه. إن العلم طاقة كبرى، كما أن المال طاقة كبرى أيضاً، فإذا وجّه العلم أو المال باتجاه الشر فسوف يكون ضررهما كبيرا بقدر خطورة وعظمة هاتين الطاقتين. إن العلم والمال إذا أسيء إستعمالهما سيكونان سبباً لتدمير العالم عن طريق إنتاج الأسلحة النووية المدمرة. كما ان العلم حينما لا يحدد بالتقوى، فإنه يصبح أداة بيد شخص مثل (بلعم بن باعوراء) الذي جيّر علمه لتدمير حياة المجتمع عن طريق دعمه لسلطة الطاغوت فرعون. وبيد شخص مثل شريح القاضي الذي أفتى بقتل الحسين بن علي (عليهما السلام) في جريمة نكراء لم ولن يشهد لها التاريخ مثيلاً. وكما قال الشاعر:
لو كان في العلم من دون التقى شرف
لكان أشرف خلق الله إبلـيـس
*بين السلطة والعلم
لذلك يفصل الإسلام، وبكل قوة، السلطة عن أصحاب المال، ويؤسس نظاماً إقتصادياً واجتماعياً رصيناً لا ينفذ فيه صاحب المال - لمجرد أنه يمتلك المال- إلى مركز السلطة في البلد. وهذه قضية أساسية في تركيبة المجتمع الإسلامي. وهكذا بالنسبة إلى العلم. فمع أنّ الإسلام يعطي المزيد من المكانة لأهل العلم والعلماء، فهو أيضا يفصل فصلاً واضحاً بين العلماء الأبرار الاتقياء، وبين علماء الشر أمثال بلعم بن باعوراء وشريح القاضي.
وبهذا الفصل يبعد عن المجتمع أولئك الذين يستخدمون العلم من أجل شهواتهم، ومن ثم يجعلون العلم تابعا للمال. فالإنسان الذي يسترزق بعلمه، فيبيع علمه ومعارفه لمن يؤمّن له مصالحه، هذا يجعل أصحاب المال والثروة قادة للأمة، وليس العلم وأصحاب العلم، بينما نقرأ في الحديث المروي عن الامام الصادق (عليه السلام): إن (الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك)2. وتقول الحكمة المروية: (اذا وجدتم العلماء على أبواب الملوك فبئس الملوك وبئس العلماء، واذا وجدتم الملوك على أبواب العلماء فنعم الملوك ونعم العلماء).
وإذا أردنا مثلا لهذه الحقيقة المرّة التي طالما حطمت العالم وسحقت المحرومين وعذبت البشرية المستضعفة، يكفينا أن نلقي نظرة خاطفة على أروقة قصور الحكم والحكام هنا وهناك، لنعرف كيف يباع فيها العلم لصاحب المال والسلطة، ولنجد مثلاً أن بروفسوراً ذكياً مستوعباً لكثير من العلوم قضى عمره في البحث والدراسة، يصبح موظفاً بسيطاً عند رجل أعمال مثل (ديفيد روكفلر) ليدعمه بالعلم الذي خلقه الله من أجل تحرير الإنسان من نير الطبيعة، ومن ضعفه وعجزه ومحدوديته، ليقهر به المستضعفين ويهضم حقوقهم.
إن بيع العلم هو أن يخترع رجل خبير في الكيماويات بعض العقاقير التي يستفيد منها لانتزاع الاعترافات من السجين لادانته ثم لإعدامه بهذه الاعترافات.
لذلك ترى القرآن الحكيم يؤكد دائماً على عدم بيع العلم بدراهم معدودة، لأنه مهما كان الثمن المدفوع كبيرا، فإنه لا يسوى شيئاً أمام العلم الذي هو دائما أغلى من كل شيء. وأول ما يفعله الإسلام هو فصل العلم عن المال، ثم فصل العلم الذي لا يستند على التقوى عن ادارة المجتمع. لذلك فالإسلام لا يقول: إن أكرمكم عند الله أعلمكم، بالرغم من أن القرآن الحكيم يقول: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المُجَادِلَةِ /11) ، وانما يقول: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? (الحُجُرات /13).
فالعلم فضيلة، ولكنه لا يكون قائداً ولا يسمو إلى قمة الهرم الاجتماعي إلاّ حينما يكون مؤطراً بالتقوى.
*خطورة العلم من دون تقوى
الذي يحدد الاتجاه الصحيح للعلم هو الله عزوجل عبر برامجه المنزلة على أنبيائه، لذلك لا تجد آية أو رواية تذكر العلم وتعطي للعلماء أهمية إلاّ وتشترط أن يكون هؤلاء العلماء في الخط الصحيح. جاء في الحديث عن الامام العسكري عليه السلام: (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)3.
وكم نجد من الأحاديث التي تحذّرنا من خطورة علماء السوء، وتصف لنا عذابهم يوم القيامة. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (رأيت ليلة اُسري بي إلى السماء قوماً تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، ثم تُرمى، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ فقال: خطباء أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون)4. وفي حديث مروي عن الامام العسكري (عليه السلام)، عن علماء السوء وأخلاقهم يقول: (.. وهم أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد عليه اللعنة على الحسين بن علي عليهما السلام)5.
وفي مقابل هذه الفئة من علماء السوء، هناك العلماء الابرار وهم القدوة الحقيقية للمجتمع، لأنهم مزوَّدون من جهة بطاقة العلم، ومزوَّدون من جهة ثانية بقدرة توجيهية لهذه الطاقة، فلا يستغلون العلم من أجل تكريس شهواتهم وتحقيق مآربهم الشخصية، ولا يستفيدون من العلم لأجل الحصول على بعض الدراهم والوقوف على أبواب الملوك أو على أعتاب أصحاب الثروة والمال.
---------------
------------------------------------------------------------
---------------
------------------------------------------------------------