قصة قصيرة
الآخر
|
جاسم عاصي
لاشك ان استمرار متابعتي لهذا الرجل، ستدعوني الى ان احول كل ما عندي الى ما يشبه التخبط في سباحة غامضة، باذلاً جهداً متواصلاً لإدراك نقطة وهمية وبذلك تكون هواجسي شديدة الانكماش. فيما لو حصل عكس ما كنت انتظره فقد تسفر مراقبتي هذه الى امور حرجة، تضعني وسط مداخلات وهموم انا في غنى عنها او انها تزيد من ثقل اتعابي التي ارهقني حملها. لذا اعتقد ان متابعتي ربما لا تفيدني ابداً ، فعلي ان اعرض عنها فوراً. مكتفياً بما مارسته خارج عربة القطار من مراقبة شديدة له .
ترى ما الذي جعلني في البدء اتابعه هكذا..؟! لقد كان واقفاً ضمن الشريط الممتد امام شبّاك التذاكر. وقتها كانت صالة المحطة مكتظة بالمسافرين بحيث بدت الاشياء فاقدة لنظامها، وكنت أجد ان ليس ما يدل على النظام سوى الخط البشري الذي اتصل بالشباك بينما يفد عبر الصالة كثيرون يهربون من مطاردة رذاذ المطر، الذي اخذ يزداد في الخارج. اذ بدت من خلال زجاج شبابيك تلك الارصفة الاسمنتية الملساء، ملتمعة كالمرايا والاشجار القصيرة اتكأت على بعضها كصبية ارهبهم خبر مفاجئ.كنت اتهيأ لملاحقة الآخرين بنظراتي وهذه عادة اكتسبها منذ زمن بعيد، ولازمتني طويلاً وكم حاولت ان اغيرها ، غير اني فجأةأجد نفسي وسط محاصرتها، رغم خوفي منها كثيراً . انها قد تفيدني في التعرف من بعيد على وجوه حين ألمحها تنبجس من داخلي امواج من الاطياف والصور ، مياه تتجدد في النهر الذي توقف ، بحيث اتمكّن من معرفة تلك الوجوه التي فارقتها زمناً طويلاً، والتي لم يبق منها غير حواش خفيفة الظلال. واحيانا اجد ان هذه المراقبة ترهبني وتخيفني مغبتها، ولذا فكل ما كان يشغلني هو هذه المشاعر التي قد تبدو غير ملحة بشكل مباشر ، بحيث يمكن ان يلمحها بعضهم من قسمات وجهي ، فتبدو منكمشة متشققة كالارض اليابسة او ان اصفراراً يمرر فرشاته الخشنة على تلك القسمات كل ما يستوقفهم اني واحد من هذا الطابور الذي يتحرك كالسلحفاة انه حبل مشدود من الطرفين يرتخي او يشتد توتره بين حين وآخر ووسط هذه الحالة شاهدته من الخلق، حاد النظرات كما خيّل لي انه يحدّق الى الامام دون ان يعيرني اي التفاتة فهو الآن يجلس على المقعد داخل العربة مثلما كان ضمن الطابور حاورت نفسي اية مصادفة هذه حيث اجده خلالها في العربة؟ من يكون يا ترى حتى اهتم به كل هذا الاهتمام؟ وماذا تعني مراقبتي له؟ الا تشكل نقداً لاذعاً حين يكتشفني متلبساَ؟ داهمني شعور من انه على علم بهذه الملاحقة وانه بتأنيه وصبره انما يحاول الوقوف على حقيقة الامر اهو يدبر مفاجئة يحاصرني بها داخل زاوية ضيقة، يمسكني متلبساَ بهذه المحاولة غير الطيبة في ملاحقة الآخرين ومن ثم يصعب عليّ اقناعه بأني لم امارس مثل هذه الحالة من قبل وانها مصادفة ليس الّا. أرى من المستحيل تصديق ما سوف اقوله تبريراً لفعلتي ولربما يتصدى لي بعبارات نارية تنام كالطلقات في بئر قلبي عندما يصعب الافلات منها الا بالحرج والخجل والتواري انه لم يلتفت الآن كذلك في صالة المحطة؟ فكيف له معرفة ما انا قائم به إذا ما قدر له ان يلحظ ذلك ؟ فأنا من الآن سأكون اكثر حذرا ، بحيث اكف سريعاً عن ملاحقته واغير نقطة متابعاتي.او اخفف منها وانشغل عنه ، ألمحه بطرف عيني وانظر الى ؟؟؟ الاذنين المزروعتين بثبات على جنبي رأسه الذي لا يشكل خرقاً عن الآخرين لذا فمن الممكن ارخاء نظراتي عنه وفرشها مجدداً على محتويات العربة او اشغالها بما يبدو خارج القطار من اعشاب برية وبساتين تبدو كخطوط خضر وسط صفحة مصفرة جداً ثم احيانا تمر خاطفة بعض البيوت الشاحبة المحتمية ببعضها والمشدودة الى الارض بخوف واضح سرعان ما يختفي منظرها دون افساح المجال للتدقيق فيه بشكل يعطيك التفاصيل التي قد تفيدك في رسم صورتها كاملة كل الذي يمكن التدقيق فيه بضع حقائب تحمل اسرار المسافرين او قد يكون بعضها خاليا تماماً لا ادري لمَ انتبهت الى نفسي، ترى اين ترقد حقيبتي؟ ابتسمت في سري، إنني لا أحمل في سفري مثلها أما هو فبالتأكيد يحمل معه حقيبة ترى كيف يكون شكلها؟. ألا يمكن أن تكون تلك الحقيبة له؟ إنه رقيق على ما يبدو بحيث يصعب عليه حملها أنّبت نفسي لماذا لم أراقبه جيداً في المحطة؟ كيف لا أعرف شكل الحقيبة التي قد تفيدني في معرفته جيداً. أو قد تذكرني ببعض صفاته على الأقل، وحين حيّرتني الآن كيف يمكنني معرفته جيداً وبهذه السرعة...؟ إنني بالتأكيد أعرفه وهذه ما تدل عليه حالة التعلق ببعض ملامحه من الخلف فلو أني لم أشك بهذه المعرفة لما اندفعت هكذا بلا استحياء كأني متأكد فعلاً وسوف ألامس كفه بعد قليل لأعثر على ما كنت أبحث عنه بالفعل عن وجهه الذي ترتسم خلاله خطوط أكثر عمقاً مما يجابهني يومياً.
تململ في مكانه أحسست بالحرج من المراقبة أخذ يتململ أكثر في جلسته هل أحس بمضايقة ما؟ إنه يترك المقعد يقف خارجه لمحت نصف وجهه أنف دقيق فيه شيء من الاصفرار ذو شارب أسود رفيع أين شاهدته قبل الآن لا أعتقد ذلك؟ ثمة شعور يستيقظ في داخلي تلمست أذني ومؤخرة رأسي بشكل لا يثير ملاحظة الآخرين تمتمت: أنه أمر طبيعي أن يعبث المرء بشعره من الخلف، وأن تزحف أصابعه إذ تلامس أذنيه ويحس بهذه الحرارة التي تنبعث منها ترى ما الذي داهمني؟ ما هذا الأحساس الذي فاجأني؟ إنه أشبه بحالة دخول المرء لأول مرة الى صالة مليئة بالنساء هل عرفته؟ ثم لو أنني كذلك فما الذي أثاره في نفسي من أمر عرفت رجلا فيما كنت أراقبه ماذا يعني مثل هذا لأتبعه كي أرى بإمعان علي الوقوف على حقيقة الأمر سوف لا ترجعني أية شكوك عما أنا مصمم عليه ولربما تعرّف عليّ وهذا يعني أنه سيكون لي وقت طويل في رفقته حيث يجري الحديث بيننا عبر ذكريات قد تكون طويلة أو قصيرة بهذا سوف أكون قد قضيت فترة غير مملة داخل القطار المنطلق صوب الجنوب. كانت عربة المطعم تهتز حين ولجتها وقد عجزت عن العثور عليه بباقي العربات إني ألاحقه لوحدي ولا يعرف أحد بذلك أو حتى لو كان يراقبني أحد في العربة، فماذا يعني هذا؟ إنها أمور اعتيادية تجري داخل القطارات أو خارجها كل يوم. من يا ترى تثيره حركاتي وتطفلي ليس ثمة ما يثير الشك والريبة فهم جميعاً لا يعرفونني حدقت بالوجوه جيداً وبارتخاء خوف افتضاح أمري كان يجلس قرب زجاج النافذة محدقاً الى الخارج بهدوء وتأمل جلست بعيداً عنه بحيث أتمكن من مراقبته بشكل واضح أصبحت ملامحه ماثلة أمامي بأنفه الدقيق ووجهه المصفر لم يتغير منه شيء قط القسمات نفسها والوجه الهادئ ذو العينين الحذرتين كل ما كان يشغلني فيه هي كل الرصانة التي يمتلكها، كنت شديد الحرص على متابعته أما هو فكان شديد الإمعان فيما حوله مشغول بتلك الخطوط المتباينة التي تحدث أثر حركة القطار السريعة تململ في مكانه حاذرت وليّت وجهي الى النافذة واضعاً كفي على صدغي كي أخفي ما ظهر من ملامحي من يكون ياترى؟ هل عرفته؟ واذا كان كذلك فمن هو؟ لمن تكون هذه الملامح وتلك القسمات ومن يتصف بهذه الرزانة كانت اسئلة تتزاحم في الذهن وتقودني الى متاهة جميلة حاولت ان اخفي نظراتي عنه لربما شاهدني وتعرف علي فهو يحمل ذاكرة قوية على ما يبدو قام عندما اخذ القطار يبطئ السير طأطأت رأسي عندما مر من أمامي كأن سيفاً من نار خطف على رأسي احسست شيئاً يضيق على خناقي ان لحظة كالحديد تثقل كاهلي وهو يسير بهدوئه المعتاد انشغلت بمراقبة ما يدور خارج العربة كانت ارصفة المحطة قد انفتحت وحين توقف القطار لم استطع التحرك من مكاني وجدت من الصعب الذهاب الى العربة مرة أخرى أكتفيت بالنظر عبر الزجاج حتى لمحته سائراً بهدوء خارج القاطرة بين المسافرين وبخطوات قصيرة بقامته المنتصبة ترى ما الذي يشغله الآن؟ اعتصرت رأسي الجاف فكرت لم نسجب كل هذه الحكاية التي تشبه نسيج العنكبوت؟ ولمَ اقتنعت بما شكلته ذاكرتي المضطربة في معرفته إنه ليس هو لربما اغرقت بالوهم مرة أخرى حيث توجب عليّ إعادة النظر بالأمر جيداً، أين عرفته؟ ولماذا أتابعه هكذا؟ وهل أبقى أسير أوهامي؟ طردت الفكرة عن ذهني لكن بشيء من المكابرة لم أستطع هكذا غدت أحاسيسي ومشاعري وقبل ان يندس وسط الزحام داخل المحطة الكبيرة حاولت أن أصل الى مدخل القاطرة لحظة تحرك القطار أنسابت ساقاي على ارض الرصيف بتتابع مرتبك وبعد أن استقر جسدي أكثر هدرت قامتي بأتجاه الباب الخارجي للصالة وبسرعة جنونية لحقت به كان في نفسي إصرار عجيب على اللحاق به ومعرفته إذا تبين ملامحه ترى هل ضاع وجهي؟ كي أحاول هكذا البحث عنه في وجوه الآخرين كانت سرعتي فائقة حيث لحقت به وهو يدخل الى مقعد التكسي قرب السائق أسرعت لفتح الباب الخلفي حيث استقر أثنان من المسافرين أرخيت جسدي على المقعد فبان لي من الخلف كاللغز المبهم وتلبستني الحيرة أثناء سير السيارة وحين هممت بدفع الأجرة سمعته يقول وهو يضع النقود بيد السائق:
- خذ إنها أجرتي وأجرة الرجل الذي دخل السيارة أخيراً.
قال السائق:
- أجرة من؟
قال:
- أجرة ولدي هذا الذي يشبهني.
إلتفت السائق نحوي ثم إنشغل بتحريك مقود السيارة قائلاً:
- فهمت.. فهمت.
صعقت ولم يسفر شريط أفكاري عن شيء بل إزداد قتامة وارتباكاً لا بد أني كنت أراقب نفسي وإلا ماذا يعني كل هذا؟ حاولت أن استقر ولكن بدا هذا محالاً وبسرعة قلت:
- سيدي أنا لا أعرفك فكيف تدفع أجرتي؟
قال بثقة:
- كيف لا تعرفني وأنا أعرفك.. تحلّ بالصبر ستتعرف عليّ حين نصل لا شك أننا نسير الى نفس النقطة يا..... .
وحين نطق باسمي تجمدت في مكاني صار كل شيء في رأسي مضطرباً والسيارة تسير علىعجالة لا أعرف وجهتها.
|
|