مبدأ الشفاعة في مراثي الحسين (ع)
|
منذر الخفاجي
إذا كان الأدب دليل الجمال فأول ما يشترط فيه سمو المعنى لكي يكون المعبر عن أحاسيس الأمة وعواطفها وأفكارها، فالأدب بصورة عامة والشعر خاصة لابد أن يكون هادفاً لتحقيق غاية منشودة نفسية أو إجتماعية أو أخلاقية أو سياسية مستنداً في ذلك الى مبدأ الإلتزام في الأدب، وعند استقرائنا لمراثي الإمام الحسين (ع) نجد أن هذه المراثي لم تنفك من معالجة قضايا الانسان والمجتمع فقد عبرت عن هموم الجماهير وطموحاتها، فحاول الشعراء توظيف الحقائق التاريخية المتمثلة بأحداث الطف من أجل ربط الحاضر بالماضي لمنحه قوة و ثراء ولتأكيد عمق الإنتماء التاريخي المتمثل بأنصع صفحات التاريخ إشراقاً، صفحة الثورة الحسينية الخالدة.
أن أهم ما ميز مراثي الإمام الحسين (ع) هوتلك النظرة النقدية للواقع وهو أمر يدل على إدراك واعٍ عند الشعراء بمسؤولياتهم التاريخية، وشعورهم بأن غائية الأدب لا تتعارض مطلقاً /ع قيمة الفنية الخاصة فقد وجد هؤلاء الشعراء أن الأدب يجب أن يندغم في مشكلات المجتمع حتى يحيل حياتنا الفردية الى حياة اجتماعية تترفع عن الهموم الشخصية الصغيرة وتضطلع بالهموم الانسانية الكبرى لذلك كان إلتزام هؤلاء الشعراء بقضايا أمتهم وهم يرثون الإمام الحسين (ع) معبراً عن إلتزامهم بمبادئ الثورة الحسينية كون تلك المبادئ خير ما ينهض بالإنسان الى عالم السمو الروحي والأخلاقي فضلاً عما يؤديه رثاء الإمام الحسين (ع) من رؤية ذاتية تتمثل في رجاء التقرب الى الله عن طريق الإمام الحسين (ع) وما ينتج من ذلك الأمر من شعور بالراحة النفسية والأمان الداخلي وهكذا نجد أن الشاعر يهدف الى خلق عالم أفضل من العالم الذي نعيش فيه.
يقول أحد الباحثين: (إن قراءة القرآن – مثلاً – لا تتحفني بطائفة من الأفكار ولا تحلّق بي في أجواء من التأملات فحسب، ولكنها الى جانب ذلك تنفحني نسائم من العواطف، وتثير عندي طائفة من الإنفعالات، وقد تفرض عليَّ سلوكاً معيناً). إن الإنسان إذا ما آمن بعدالة قضية فإنه يكون من الناحية النفسية مستعداً لتقبل كل ما يدعم ويعزز تلك القضية وحينما يكون النص الأدبي موظفاً لتلك القضية فأنه سيكون محور إلتقاء بين المبدع والمتلقي كما أن هناك إتفاقاً ضمنياً مشتركاً على قضية واحدة، والنقطة الأساسية التي يلتقي عندها الشاعر والمتلقي في مراثي الإمام الحسين (ع) هي المنزلة العظيمة للإمام وعدالة قضيته وتضحيته في سبيلها مما يترتب على ذلك أن يكون الإمام الحسين (ع) شفيعاً لمحبيه وأنصاره. وقد جاءت في ذلك طائفة كبيرة من الروايات المعتبرة عن الأئمة الطاهرين (ع) فكان هذا المبدأ – الشفاعة – حافزاً دفع الشعراء الى القول وجعل المتلقي يعيش حالات التأثر لما يحققه مبدأ الشفاعة من شعور بالأمان النفسي.
من هنا كان الحزن على الإمام الحسين (ع) طريقاً للشعراء من أجل نيل شفاعته للوصول الى مرضاة الله وهذا وحده يمكن أن يكون كافياً لبعث الراحة النفسية للشاعر والمتلقي معاً فالكل بحاجة الى من يأخذ بأيديهم يوم القيامة، يقول عبد الحسين الحلي:
أنت لي ركنٌ شديدٌ يوم لا يُلتجى إلّا الى ركن شديدِ
هذه مني يدٌ مُدّت فخذ بيدي منك الى ظلٍ مديدِ
فالانسان بما هو كائن تتجاذبه الغرائز فإنه سيظل عرضة للتقصير مما يولد في داخله أنواعاً من الصراعات التي تزعجه ولا سيما حينما يتراءى له ذلك الموقف الرهيب وهو يعرض للحساب الإلهي يوم القيامة فيأتي دور الشفيع – الإمام الحسين (ع) – ليكون أملاً في النجاة، يقول محمد علي اليعقوبي:
لست أرجو سوى حضوركم يوم وفاتي وفي الحساب خلاصي
إن ملازمة الحزن لطلب الشفاعة في المرثية الحسينية دليل واضح على إيمان الشعراء بشفاعة الإمام الحسين (ع) وأنه (ع) لن يخيب رجاءهم فهو المعقل والمنهل، يقول السيد حيدر الحلي:
أأصدر ظمآناً وقد جئت مورداً رجائي من جدواك أعذبُ منهلِ
وتُسلمني للدهر بعد تيقّني بأنك مهما راعني الدهر معقلي
فهب، سوء فعلي من صِلاتك مانعي فحسن رجائي نحو جودك موصلي
ويقول في مرثية أخرى:
بولاء أبناء الرسالة أتقي يوم القيامة هولها وبلاءها
آليت ألزم طائراً مدحي لهم عنقي إذا ما الله شاء فناءها
ليرى الإله ضجيع قلبي حبها وضجيع جسمي مدحها ورثاءها
ماذا تظن إذا رفعت وسيلتي لله حمد أئمتي وولاءها
أترى يقلّدني صحيفة شقوتي ويبزّ عنقي مدحها وثناءها
بل أين من عنقي صحيفتي التي أخشى وقد ضمن الولاء جلاءها
لقد ارتبطت ثورة الحسين (ع) وشخصيته ومبادئه وبطولته وتضحيته بالألم، والألم بالأمل والأمل بالانقاذ والخلاص لأن البشرية لا تستطيع لوحدها أن تتغلب على الألم البشري وبذلك أصبح الاستشهاد طريق الشفاعة والخلاص فالإمام حينما ضحى بنفسه وأصحابه فإن ذلك كان من أجل خلاص المسلمين حتى أن تضحيته في سبيل الاسلام لم تقف عند حد فقد أعطى الله كل شيء فأعطاه الله كل شيء ومما أعطاه الله للحسين أن يشفع لمن نصره ولو ببيت واحد من الشعر أو بدمعة حزن، يقول محمد علي النجار:
وأرى ببعدي عن رثائك جفوةً فنظمتُ أبياتاً على مقداري
لأكون مصداق الأحاديث التي تروى لنا في جملة الأخبارِ
من قال فينا بيت شعر واحد فله جنان الخلد دار قرارِ
ويقول عباس رشيد الخزاعي:
تدخلون الجنان من قال فيكم بيت شعر وقلبه مسرورُ
وشعوري لديكمُ والقوافي هي لي عندكم شفيع نصيرُ
ويقول عبد المنعم الفرطوسي:
أنت الشفيع وما عندي لما اكتسبت يداي غيرك يوم الحشر من أملِ
لقد حاول الشعراء من خلال الكلمة الصادقة تحقيق غايتين تتمثل الأولى بالاستجابة لدافع القول بوصفه إنساناً مبدعاً فيما تتمثل الثانية في رجائه بنيل الشفاعة لتتوحد الغايتان في تحقيق جو من الأمان النفسي والاطمئنان الداخلي، يقول طالب الجبوري:
إن لم أدخر لحشري ونشري غير هذي اليتائم الأفوافِ
ودموعي على الحسين شهيد الطف حسبي إذا عدمتُ القوافي
ويقول السيد صالح القزويني النجفي:
وإني بكم أنزلت جل مطالبي وأدركت من أفضالكم كل مطلبِ
ويلاحظ أن الإمام الحسين (ع) وأهل بيته عليهم السلام لم يكونوا شفعاء في الآخرة فحسب بل إن الشعراء استنجدوا بهم للخلاص من صعوبات الدنيا ومصائبها أو لطلب النجاح في حياتهم، يقول يعقوب الحاج جعفر الحلي:
إني لأرجوكم في كل نائبةٍ فإنكم خيرُ مرجوٍ ومنتدبِ
ويقول محسن ابو الحب:
أنتم رجائي وأنتم عدتي وبكم أرجو النجاة فأنتم علةُ العللِ
ويقول عبد القادر رشيد الناصري:
يا ابن رب البيان كن لي شفيعاً يوم لا شافع سواكم ومطلبْ
واذكرني لدى إلهك إن جئت ومن حوله التسابيح تسكبْ
قل له عبدك المشرّد يحيا في زحام الحياة من غير مأربْ
غيره ناعم بدنيا الأماني وهو في عالم الشقاء معذبْ
إن هذا المنحى في طلب الشفاعة والنصرة يكاد يكون ظاهرة عامة في خواتيم المراثي في اشارة من الشعراء الى أن حزنهم على سيد الشهداء دليل على إخلاصهم لمنهج أهل البيت (ع) لذلك فمن حقهم أن يتوسلوا به (ع) لتحقيق مطالبهم التي تعبر عن نفوس أرهقها الزمن فلم تجد سوى اللوذ بحمى الحسين لاستعادة الثقة بالنفس وليكون ذلك للشاعر مصدراً وطريقاً في الشفاعة.
|
|